تداخل الأسباب وتشابك الدوافع المؤدية للانتحار جعلته من الظواهر المعقدة التي لا يزال الاختلاف عليها قائما، إذ إنه يهدد البناء الاجتماعي والوجود الإنساني إذا ما تمت معالجته والسيطرة عليه، سيما وإن بدأ بالانتشار بشكل ملحوظ بعد المتغيرات التكنولوجية السريعة التي لم يألفها المجتمع سابقا لذا عانى اضطرابا فكريا وسلوكيا بالتعامل معها.
كما إن إختلاف أيدولوجيات وسائل الإتصال الحديثة والرسائل التي تبثها بطرائق متعددة عن قيم وتقاليد وعادات ودين مجتمعنا ودون سابق انذار وجد المواطن نفسه أمام عاصفة من التطور أدت إلى انتشار سلوكيات سلبية ومنها ظاهرة الانتحار.
انتحار درامي
مشكلة اجتماعية كبيرة في العصر الراهن وفيات بأعداد مخيفة ترسم صورة واضحة عن حجم التأثر بالتكنولوجيا الحديثة لبناء مسلسل درامي لعمليات انتحار مخطط لها مسبقا، تستند في أسبابها إلى الظروف البيئية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية.
ويبين الباحث في الشأن الاجتماعي الاستاذ عبد الله راجح من جامعة بابل أن "وسائل الاتصال الحديثة وتطبيقاتها، والألعاب التي تشجع على العنف، ساهمت بشكل كبير على اتخاذ السلوك الانتحاري لدى الشباب، عن طريق عرضها وبشكل مكثف مشاهد العنف المتعددة".
ويضيف راجح إن "الانفلات وعدم وجود رقابة على هذه الوسائل واستخدام الانترنت بشكل عام جعلت من المواد التلفزيونية من مسلسلات عشق تنتهي بانتحار الأبطال، أو العوز المادي وانتهاء المشهد بانتحار الشخص، ولقد مارس الإعلام بوصفه السلطة الرابعة دورا كبيرا في إعادة بناء ثقافة الجمهور وبرمجتها ومسخ هويتها.
من خلال آليات متنوعة تمتلك فاعلية التغيير الثقافي والفكري، فهو يمثل سلطة ناعمة تنساب بين طيات المجتمع وتدخل المنظومة الأسرية دون رقابة، فهو آفة تركت دون مكافحة".
المقبلين على الإنتحار
تتعدد طرائق الإنتحار وأسبابه وأماكنه، إلا إن في بغداد أصبح جسر الجادرية الوجهة التي يقصدها المقبلين عليه، حادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فبصعوبة بالغة وفي اللحظات الأخيرة استطاعت مجموعة من المارة على جسر الجادرية في بغداد إنقاذ الشاب مصطفى، بعد أن قرر إنهاء حياته انتحارا برمي نفسه في نهر دجلة ليلا.
مصطفى البالغ من العمر 21 عاما قادم من عائلة تعاني التفكك والفقر، وقد قرر إنهاء حياته بهذه الطريقة هربا من واقع لا يستطيع تغييره أو تقبله، فيما يبدو أنها باتت طريقة عشرات الشباب العراقيين الذين أصبحوا غير قادرين على التعايش مع مشاكلهم وظروفهم الخاصة والعامة.
وتتداول صفحات مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار قصصا جديدة عن شبان وفتيات قرروا إنهاء حياتهم بالقفز من فوق جسر أو تناول السم أو قطع الأوردة أو شنق أنفسهم أو الحرق، والقاسم المشترك بينهم جميعا هو ظروف اجتماعية قاسية وصعبة قادتهم إلى هذا.
فيما تشير الدراسات والأبحاث في مجال التأثير التكنولوجي على حياة الفرد إلى أن انتشار حالات الانتحار تعود للاستخدام المفرط والإدمان على الألعاب التي تروج للعنف والانتقام والحرب، مما يسبب بدوافع نفسية للإقدام على هذا الفعل، ومن بين تلك الألعاب الحوت الأزرق، وبوبجي، وغيرها إذ إنها تزداد حدة العنف فيها كلما تقدمت المراحل وتحدث تطبيقها مما يولد ضغطا نفسيا وتوترا شديد في نفوس مستخدميها.
الانتحار بالأرقام
أرقام وإحصائيات سجلتها منظمات حقوقية ومراكز بحثية عديدة، إذ كشفت المفوضية العليا لحقوق الإنسان إنها رصدت نحو 3000 حالة انتحار في الفترة بين 2015 و2018 لدوافع مختلفة، كما أن مستشفى الشيخ زايد في بغداد أعلنت عن إنقاذ نحو 18 حالة انتحار خلال أغسطس/آب الماضي.
وتتصدر محافظة ذي قار نسب المقدمين على الانتحار في العراق، تليها ديالى ثم نينوى وبغداد والبصرة، إضافة إلى الحالات الموجودة في إقليم كردستان، التي غالبا تحاط بالسرية والكتمان.
وقد بلغ عدد الذين قرروا إنهاء حياتهم خلال عام 2017 في ذي قار 119 شخصا و76 وفي ديالى و68 وفي نينوى و44 في بغداد و33 في البصرة، وفقا لتقرير المفوضية، في الوقت الذي حاولنا الاتصال بوزارة الصحة لكنهم رفضوا اعطاء أي احصائيات.
ويتحول انتحار البعض إلى حوادث عرضية، إذ أن عشرات حالات الانتحار تسجل على أنها حوادث تفاديا للحرج الاجتماعي، ثم تكتشف السلطات الأمنية بعد ذلك أنها كانت انتحارا.
تعددت الأسباب والموت واحد
في العراق اينما وليت وجهك تشم للموت رائحة، حقب توالت بين الحروب، الاعدامات والانفجارات والأمراض والطائفية، وأخيرا داعش الذي حصد أرواح الشيبة والشباب والأطفال والنساء.
ففي ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصعبة التي يمر بها البلد، يرى أستاذ علم النفس بجامعة بغداد حيدر الدهوي أن "تلك العوامل مجتمعة ولدت عدم اتزان لدى الكثير من العراقيين أدى إلى فقدان السيطرة على الذات، مما يدفع بعضهم للإقدام بالانتحار".
ويضيف أن "أكثر الحالات المسجلة هي في أوساط النساء، لأن المجتمع ما زال "ذكوريا عشائريا" يضغط على المرأة ولا يمنحها حقوقها كاملة، فبعضهن فقدن المعيل ولم يحصلن على شيء من الدولة، وهن يخضعن لضغوط اجتماعية كثيرة ومعقدة".
ويبين الدهوي أن "هناك حالات أخرى بسبب تعاطي المخدرات والبطالة، وعدم الإحساس بقيمة الحياة أو جدواها، والضغوط التي يتعرض لها بعض الطلبة من قبل أسرهم، الأمراض النفسية قد تكون دوافع مهمة للانتحار، لأن العائلة العراقية لاتزال تفتقر إلى ثقافة تفهم واستيعاب الاضطرابات النفسية، مما قد يؤدي إلى تفاقمها".
ويجد الدهوي أن "الحلول يمكن ايجادها ببساطة، ذلك بالقضاء على المسببات، مثلا بفرص عمل للشباب، القضاء على العنف والتمييز الطائفي، ودعم قطاع التعليم من شأنه أن يسهم في الحد من هذه الحوادث، إضافة للدور الذي يمكن أن تمارسه منظمات المجتمع المدني والمساجد في التصدي للظاهرة".
اضافةتعليق
التعليقات