"الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات تم عقد قراني، وقد كان هناك عمل شيطاني طال الحدث وقد فك بأمر الله بسلام".
هل يوجد أسخف من هذا المجتمع الذي ينشغل بمطربة تتلذذ بالذل بحجة الحب، ويصبح الحدث العام لمدة شهر وأكثر على التوالي فلا تجد صفحة تخلو من هذا الخبر، كيف نامت وماذا قالت وكيف هي حركاتها، ثم ينطلق الخبراء النفسيين الذين لاعلم لهم بعلم النفس حتما يحللون كل تلك الحركات.
ثم هل توجد تفاهة أكبر من هذه التي نعيشها مع مولود جديد لمن حروفها لا تعرف الوزن ولاهناك تجانس فيها لقافية، انجازها الكبير هو الاستعراض بالمال والشهرة لتشغل جميع الصفحات الثقافية والاجتماعية معها؟!
هذا العالم منغمس بالسخافة والتفاهة بسبب الهروب من واقع يحتاج إلى جهد ومثابرة حقيقية مثلا، هل تعرفون من هي هيدي لامار؟ طبعا لا .
هي فنانة نمساوية سينمائية شاركت في اختراع نظام الاتصالات الحديثة المستخدمة في تقنيات البلوتوث والواي فاي، التقنية التي أنت الآن لا تستطيع أن تتخلى عنها، فهي تتيح لك أن تكون طبيب وأنت لا تفقه في الطب ومثقف وأنت لا تعرف كم عدد أجزاء كتاب ربك، ثم تتيح لك أن تكون سياسي وأقوى ردة فعل لك هو تحكمك بالحجر في لعبة اللودو.
ثم هل تعرف مثلا أن ماري كوري تعتبر أول شخص يفوز بجائزة نوبل مرتين، وذلك لأبحاثها حول النشاط الإشعاعي ودوره في علاج السرطان، أو على الأقل هل تعلم من هي (آدا لوفلايس) بنت الشاعر لورد بايرون، كانت عالمة رياضيات وتعد أول مبرمجة حاسوب في التاريخ قبل ظهور الحواسيب بشكلها الحديث، حيث طوّرت برامج لآلة تشارلز باباج التحليلية، ووضعت القواعد الأساسية للغات البرمجة الحديثة، مؤكد لا، لأن الحدث العام يشغله شخصيات في قمة التفاهة فمن أين للأشياء المهمة أن تظهر.
ببساطة الانضمام لمجتمع أغلبية أعجبني من التفاهة لايحتاج سوى ضغطة بسيطة في الشاشة على عبارة "أعجبني" وسيكون كل شيء متاح لك، الوضيفة التي تعجبك، طبيب، مبرمج، مثقف أو محلل وإن شئت سياسي بامتياز، حيث يراودني حينما أرى من يترأسون الحدث الرئيسي في المواقع، شعرا للشاعر فاضل أصفر:
لأن الخيل قد قلت ... تَحلت حمير الحي بالسرج الأنيق
إذا ظهر الحمار بِزي خيل... تَكشف أمرهُ عند النهيقِ
فتنطلق فلانة من كانت فلان سابقا بعد اجراء عملية تحويل لجنسه وهو خريج كلية الاعلام، بالقاء نصائح طبية واطلاق منتجات طبية في متجره الخاص والتكلم بكل ثقة وكأنه طبيب مختص، ثم تزداد السلسلة ليقوم كل من رفعته عبارة اعجبني خاطئة وأصبح مشهورا إلى تبديل جلده حسب التمويل، ليكونوا انفجارا معرفي لم يسبق له مثيل فهم يعرفون كل شيء، طبعا معرفتهم تكمن خلف كمية المبالغ التي تدفع لهم.
المشكلة لا تكمن ببعض أو أغلب المرضى النفسيين الذين يتصرفون وكأنهم خبراء ضليعون في الموضوع الذي يجري النقاش بشأنه، حيث يؤكدون انتشار ظاهرة موت العالم، إذ أصبح الكثيرون من بين الناس العاديين، لا يثقون في المختص، وإنما في قدراتهم وفهمهم، والنتيجة هي أن تصبح المناقشات غير معتمدة على معلومات علمية، مثلا لو سألت الأطباء سيخبرك بعضهم بأن مرضاهم أصبحوا يخالفونهم الرأي، وسيحيلون الطبيب إلى مصدر قرأوه على شبكة الإنترنت وليس إلى مقال في مجلة طبية محكمة.
إن الانفجار المعرفي السطحي المستعمل بانتهازية في المواقع الإلكترونية، والمعرفة القابلة لأن يفهمها ويستعملها كل البشر، أدت إلى فقدان الثقة في السياسيين ومراكز البحوث والإعلام والدين ليصبح الشك في كل شيء، مثلا أولئك الذين شككوا فى وجود فيروس كورونا وأكدوا أنه ليس إلا مؤامرة، وظهر الكثير منهم ممن لا يفقه سوى لغة المال ليدحض فكرة وجود هذا المرض وقالوا بأن اللقاحات ضد كورونا ليست إلا حبكة لزيادة ثروات شركات الأدوية، ولكن ماذا حصل بعد ذلك، أدى إلى ملايين الوفيات.
نحن هنا نتحدث عن عصر الانتشار الهائل للمعلومات المتناثرة والمتناقضة الخاطئة، التي لا تؤدي إلى المعرفة العقلانية، لتصبح الحكمة في الحياة العامة من النوادر.
ربما يمكن أن يرتكبوا العلماء الأخطاء، لكن ذلك لا يبرر المكانة التي يريد البعض أن يصلون إليها من خلال الاعتقاد الأعمى بالتطورات الهائلة في المعلومات ووسائل انتشارها، والأمر الأشنع من غيبة الوعي إلى ممارسة تغييبه، ممن يدعون الفهم، حيث يقود الركب الأصاغر، ويرسم الإعلام المأجورين، مع بضاعة مزجاة، ووعي مفقود، وعلم متهافت، وأقلام بالية.
إن مقاومة هذا المرض الجديد من المعرفة العشوائية بشعور البعض أن التطورات التكنولوجية ستغني عن الحاجة للآخرين، يحتاج أن يتعامل معه من خلال الوقاية والحد من اتباع من هم ليسوا أصحاب أهلية لتلك المعلومات، لئلا ينقلب إلى سلوكيات مضحكة أو مضرة كما أدت إلى أضرار كثيرة الآن، فهو يحتاج أن يكون في قائمة مسؤوليات هذا العصر الذي لا يتعب من توليد المشاكل.
اضافةتعليق
التعليقات