"الصياد يعرف دوماً ماعليه ان يتوقع، كُل أو تُؤكل".. راح البؤساء ضحية هذه الحقيقة المؤلمة وذلك بسبب لقمة العيش فهي مُرّة والسعي وراءها مُرّ، فقرروا الاكتفاء بالنزر القليل من قوت العيش من باب "ما لايمكن علاجه، لابد من تحمّله" وباتوا طعاماً دسماً لحيتان الفساد ونسوا في خضم كل هذا أنّ الاستغلال والعبودية أشد مرارة من كل ذلك.
ولكن ثمّة عين التقطت حال أولئك المعذبين في الأرض الذين أضناهم العمل وأعيتهم اللانسانية، فشرعت تلك العين في التساؤل وسَرت قُدماً وأبواب تُفتح أمامها لتفيض إلى أخرى، نبشت عن المسكوت عنه وكشفت عن شبكات الاستعباد وقدّمت الحقيقة للعالم كله.
إنّها عين الصحافة والسُلطة الرابعة.. سلطة الاعلام التي تصدّرت هذا المشهد بعد أن تقاعست سلطات المجتمع التنفيذية والقضائية والتشريعية عن ذلك، لتصبح سلطة أولى لا رابعة، تُوجّه وتفرض وتمنهج الرأي العام الدولي وتُهيمن على الاقتصاد والسياسة والمجتمع.
تعتبر الصحافة الاستقصائية ومنها فن التحقيق بأشكاله المختلفة إحدى أهم ألوان الصحافة وأكثرها تأثيراً، فهو النوع الذي يُسدل الستار عن قضايا وملفات وجرائم بعد أن يحضر الصحفي بكليّته الى مكان الموضوع فيوّثق الحقائق بالارقام والصور ويدعم تحقيقه بالمصادر المتعددة واللقاءات المتنوعة الرسمية والغير رسمية، والهدف من كل ذلك احداث تغيير ايجابي في المجتمع أو فتح العيون لأحداث مأساوية تقع في شرق الأرض وغربها أو إلقاء الضوء عليها وذلك أضعف الايمان.
وصحافة التقصي او الاستقصاء أو العمق هي مصطلح عمره يزيد على نصف قرن في دول العالم المتقدم، وهو يعني: سبر أغوار الظواهر المجتمعية المختلفة سياسية او اقتصادية او اجتماعية، ومحاولة الوصول الى عمقها عن طريق الاستبيان او دراسة البيانات المتوفرة او التحقيقات الجنائية او الحسابية، ابتغاء تجلية حقيقتها أمام الرأي العام وصنّاع القرار، ايا كانت هذه الحقيقة، وايا كنت ممن يوافقها او يجافيها، وهي تتعامل مع أدلة خاصة ومصادر غير معلنة، أو مراوغات أو تسريبات وحقائق غير كاملة وجعل هذا النوع من الأدلة مادة صحفية مؤثرة ليس بالأمر السهل.
ويقال في الغرب: (ان للصحافة الاستقصائية قدرة لاتضاهى على ربط مسؤولين بجرائم معينة)، كإستقالة الرئيس الامريكي نيكسون من منصبه على أثر فضيحة ووترجيت في تحقيق استقصائي لجريدة "واشنطن بوست"، وهي بوابة في فتح التحقيقات في جرائم المال والادارة وكذلك ملفات الاستغلال والاستعباد.
وهذا ما طرحه التحقيق الصحفي الذي تناول العمل المضني واللانساني للصيادين في المياه الاسيوية والذي ذكرناهم بدايةً، وهم الذين يعانون من الاستعباد لتصدير أسماكهم الى الغرب، لاسيما الى الولايات المتحدة وبأثمان بخسة..
تحقيق كشف المعاناة التي يقايسها هؤلاء الصيادين من ظلم واستغلال وهم مهاجرون عصفت رياح البؤس في أرواحهم، وآل هذا التحقيق الذي أعادت نشره وسائل إعلام عالمية الى تفكيك شبكات الاستعباد وتوقيف عدة متهمين وتحرير نحو ألفين من هؤلاء الصيادين، واستحق هذا التحقيق لوكالة "أسوشتيد برس" جدارة الحصول على أوسكار الصحافة: "جائزة بوليتزر 2016" في مجال"الخدمة العامة" وهي أعرق جائزة في الصحافة.
نرفع القبعة لكل من ساهم في معاقبة هؤلاء المجرمين _الذين تسلّقوا على أكتاف المهاجرين البسطاء_ وحوّلوا أقلامهم الى منابر تكشف الظلم وبكل الاشكال المباشرة والغير مباشرة، بيد أنّ هذه القصة مجرد رقم بين ملايين الارقام من المآسي التي تقع في كل أرجاء المعمورة، ولعل بعضها يستحق الاحتفاء بها أكثر من هذه، فهناك أرواح بريئة تُزهق في كل مكان وتحتاج لمن يعرّي حقائق مهمّة عنها، وهي لا تطيق انتظار وصول وكالة عالمية أو صحيفة مشهورة يُحسب لأخبارها وتقاريرها ألف حساب.
في بلادنا آلاف المقالات والتحقيقات التي تنادي بالعدل والقصاص لأناس أساءوا وأوغلوا فساداً وبالفعل هي انتاجات جيدة تستدّر الدموع ولكننا بطبيعة الحال "نسمع جعجعة ولانرى طحيناً!" إلا ماشذّ وندر.
في معترك الصراعات التي نعيشها نحن بحاجة الى صحفيين ومؤسسات وجماعات وأفراد أكثر من المتواجدين حالياً وأكثر خبرة وشجاعة ومسؤولية، ولاسيما أننا في خضم الحروب والنزاعات التي أنتجت جيشاً من التجّار والمجرمين الذين يعتاشون على حاجات البسطاء والمستضعفين ويستغلونهم في التسوّل وفي صناعة الادوية المزوّرة وفي بيع المأكولات الفاسدة و الاعضاء وحتى الشرف!.
وقد يقول قائل أن أكثر من يعمل في هذه المجالات هم ممن يبحثون عن الشهرة والصيت والاسم وما الى ذلك.... هذا ليس مهماً، المهم من يوقف آلة الفساد والظلم، من يضع العصيّ في دولاب القتل والاستغلال، من يعمل من كل قلبه، فيُلاحظ ويلتقط ويوّثق وينتقي المفردات بأناقة وينقل كل ذلك فيحرّك الناس ويدفع الجهات المسؤولة لإيقاف كل ذلكو للمساهمة في الاصلاحات والحصول على غدٍ أفضل فنحن في زمن.. الحقوق فيه لا توهب، بل تؤخذ بالقوة، قوّة القلم والكلمة لا السلاح.
اضافةتعليق
التعليقات