مع حلول منتصف شهر آذار/مارس، كانت حياة العالمة الجزائرية، مريم مراد، قد بدأت تتغير على نحو كبير سواء بخصوص عملها أو حياتها مع عائلتها في مدينة نيويورك.
حتى ذلك الوقت، كانت جهود فريق الباحثين، في مختبر المناعة الذي تديره في مستشفى ماونت سايناي (Mount Sinai Medical School)، منصبّة على بحوث تتعلق بالتوصل لأسلوب مبتكر لعلاج السرطان من خلال تعزيز الجهاز المناعي. ولكن عندما ضرب فيروس كورونا مدينة نيويورك اضطرت عالمة المناعة لتعليق كل تلك الأبحاث وتحويل جهود فريقها لدراسة الفيروس.
وضعت الباحثة هدفا محددا لفريقها: محاولة معرفة سبب وفاة بعض الأشخاص بسبب هذا الفيروس الجديد دون غيرهم، وذلك من أجل خفض عدد الوفيات.
لكن فريق الباحثين ظل عاجزا عن العمل في البداية، لعدم وجود أعداد كبيرة من المرضى في المشفى لسحب عينات من دمهم. وبعد ذلك، ومع تزايد عدد المرضى الذين نُقلوا إلى المشفى، كان من الصعب على الباحثين أن يطلبوا من الممرضات المساعدة في سحب عينات الدم بسبب ضغط العمل الكبير. "رغم ذلك كان علينا كباحثين أن نتدخل، إذ لا يمكن معالجة مرض إن لم نفهم طبيعته"، كما تقول البروفسورة مريم عبر سكايب.
إلى جانب فريق مختبرها المكون من 25 باحثا، تمكنت البرفسورة من حشد قرابة الثمانين شخصا ممن يعملون في المختبرات الـ 42 الأخرى التابعة للمشفى، للعمل معا على البحوث المتعلقة بالفيروس المستجد.
وبعد أسابيع من العمل، خلصوا إلى أن حدوث التهابات في أنسجة أعضاء كالرئة أو الكلية أو القلب أو الأوعية الدموية هو المسؤول عن وفاة المصاب بكوفيد-19.
تقول الأستاذة مريم: "تعرفنا على طبيعة الالتهابات المخرّبة للأنسجة، لكن لا يزال علينا تعزيز هذه النتائج التي وصلنا لها. والآن علينا إيجاد طريقة علاج بحيث نعرقل عمل أجزاء معينة من الجهاز المناعي، لأننا أدركنا أننا لا يجب أن نغلق مسارا واحدا فقط.. يجب التحكم بالجهاز المناعي (في رده على الفيروس) بطريقة حكيمة؛ بحيث نسمح له بمحاربته ولكن مع منعه في الوقت نفسه من تخريب الأنسجة - وتحقيق هذا التوازن هو الأمر الصعب".
"لم أتعرض لمثل هذا الموقف في حياتي"
سألتها عن آخر ما توصلوا له، ومتى يمكن أن نراه مطبقا كعلاج قد يحمي بعض الأشخاص من الموت من هذا المرض، الذي أودى حتى 28 مايو/أيار بحياة أكثر من 350 ألف شخص في مختلف أنحاء العالم؛ 100 ألف منهم توفوا في الولايات المتحدة.
أجابتني بالقول: "مثل هذه البحوث تحتاج إلى وقت. يتصل أخي كل يوم بي ويسألني عن النتائج.. وكذلك مدراء المشفى التي نعمل بها يتطلعون للحصول على النتائج. لكننا - كباحثين - يجب أن نقاوم هذه الضغوط، لن نعطي أي إجابة حتى نكون متأكدين تماما مما سنقوله".
لذلك تقول إن أكثر ما أغضبها في الفترة الماضية كان تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التي "ناقض فيها نصائح العلماء، وقلل من خطر الفيروس، واعتبره مجرد خدعة، وركز على مهاجمة الصين". حتى أنها تقول إن طريقته في الترويج لعقار هيدروكسي كلوروكوين كانت "إجرامية.. لأنها دفعت أشخاصا لأخذ الدواء دون استشارة طبيب.. وهذا أمر خطر".
ومن أجل الوصول إلى نتائج محكمة، كان على البروفسورة مريم اتخاذ قرارات صعبة، وبالطبع تحمّل مسؤولية تلك القرارات.
"كان علي أن أقرر طبيعة البحث الذي سنعمل عليه؛ طلبت جمع 500 عينة من دماء المصابين الموجودين في المشفى بشكل يومي. وتعرضت لتشكيك البعض بقراري هذا".
وتضيف: "في الوقت ذاته أشعر بالقلق على سلامة الفريق. شجعت كثيرا من الشباب على التطوع لجمع العينات من دماء المصابين بالفيروس، وكان المنطق الذي اعتمدت عليه، هو أن الفريق الطبي على تماس مع هؤلاء المرضى، ومع ارتداء معدات الوقاية يمكن أن نحمي أنفسنا. كانت هذه مسؤولية كبيرة، خاصة وأنها تتضمن احتمال إصابة أو وفاة أحد أعضاء الفريق. لم أتعرض لمثل هذا الموقف في حياتي".
"الشريك المناسب"
كانت مريم قد ولدت لأبوين مولَعَيَن بالعلوم؛ فوالدها كان رئيس مصلحة أمراض القلب في مستشفى بالعاصمة الجزائرية، وأمها كانت رئيسة قسم علوم السموم. ودرست هي الطب في جامعة الجزائر، ثم سافرت عام 1989 لتتخصص في فرنسا في علم الأورام، وعام 1998 سافرت إلى الولايات المتحدة لتلتحق بمختبر في ستانفورد، وتبدأ التحضير لنيل درجة الدكتوراه في علم المناعة.
زوجها، طبيب الأشعة، مر برحلة مماثلة تضمنت الدول الثلاث ذاتها (الجزائر - فرنسا- الولايات المتحدة)، حتى تعرف عليها في حفل بمدينة سان فرانسسكو، وأنجبا ولدين هما الآن في عمر الـ13 والـ 15.
تقول لي إنها مقتنعة بأن أهم قرار ينبغي على النساء، أن يكن متأكدات وواضحات بخصوصه هو "اختيار الشريك المناسب"، لتتمكن السيدة من التفاهم معه بشأن كثير من القرارات في حياتها.
"حتى في أمريكا، تعتقد الأمهات أنه من الصعب التوفيق بين العمل والأولاد. من الجميل طبعا البقاء مع الأولاد في المنزل لمن يرغبن بذلك. أما من يخترن العمل بعد الإنجاب، فيمكن لهن أيضا أن يشعرن فيما بعد بمتعة العودة إلى المنزل مساء، والحديث مع أبنائهن عن قصص العمل. طبعا مررت بمواقف شعرت فيها بالذنب لعدم معرفتي بكل تفاصيل حياة أولادي.. لكن يمكن أن نبدأ بعمل بسيط عندما يكونون صغارا ونطور عملنا كلما كبروا. كل هذه الأمور تحتاج لنقاش مع شريك الحياة".
وفي شهر مايو/أيار، انتخبت مريم عضوة بالأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة لإسهامها العلمي في بحوث السرطان. وتقول لي إن عدم وصول النساء العاملات في مجال العلوم، إلى مناصب قيادية، مشكلة شائعة أيضا في الولايات المتحدة. "كطلاب دكتوراه، تكون نسبة النساء 50%، ولكن تنخفض هذه النسبة إلى 15-20% فيما يتعلق بوصول المرأة إلى منصب قيادي".
"سنبدأ تجاربنا هذا الصيف"
ينتظر الآن ملايين الأشخاص، خاصة الكبار في السن والمصابين بأمراض مزمنة تضعف مناعتهم، ابتكار لقاح يحميهم، لكن البروفسورة مريم تقول إن اللقاح سيأخذ وقتا، على الأقل 18 شهرا. "اللقاح يعطى للأشخاص غير المصابين، وهذا يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك خطأ، ولا يجب أن تكون للقاح أعراض جانبية. نعلم أن 80% من المصابين بفيروس (كورنا المستجد) يبقون بحالة جيدة.. لذا لا يمكن المخاطرة".
وعلى محور آخر، هناك شركات تطور أجساما مضادة للفيروس (antibodies) لتعطى للمصابين لتساعدهم على التعافي من الفيروس.
أما بالنسبة لفريق العالمة مريم، فستبدأ اختباراتهم في شهر يوليو/تموز.
"سنبدأ تجاربنا السريرية على العاملين الصحيين المعرضين للفيروس، لنرى ما إذا كنا قادرين على تقوية استجابتهم المناعية. كما سنتعامل مع المرضى، الذين تظهر عليهم أعراض طفيفة، ولكنهم من الفئات المعرضة للخطر، لنرى إمكانية معالجتهم مبكرا بقدر الإمكان قبل أن تشتد عليهم وطأة المرض" حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات