حدّث العاقل بما يعقل، مقولة تخاطب المجتمع كشريحة عامة ولها مخاض خاص أيضا، باعتبار أن الفرد فيها يعيش على مبدأ التعامل الجمعي، سواء علميا أو منطقيا، ولها مواقف خاصة كما هي خطب الإمام علي (عليه السلام) ورسائله إلى من ولاّهم أمر الرعية كمالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر .. وغيرهم ..
ولأن الأسلوب الذي يتبع يتحدد نمطه على مدى ثقافة الفرد وزمنية الظرف والمكان وظاهرة الخلط الفكري وإمكانياته.. هناك أسباب كثيرة تتقارب وصدى رواجها بين أفراد المجتمع ، بعضها تفهم التعقل على مستواه اللإدراكي ، كأن يكون الوعي ملازم التصرف وهذا ممكن لأن النضج له الأثر البالغ في فهم كينونية الفكرة وأبعادها وتوازنها فيكون العقل ميزان هنا يحفظ التوازن ويجعله مقياسا للأسلوب المتبع.. عقلي قالب ، يقولب الأفكار ، كيفما هو ناتج فكري..
فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في وصيّته لولده محمد ابن الحنفية: "وأحسِنْ إلى جميع الناس كما تحبّ أن يُحسَن إليك، وارْضَ لهم بما ترضاه لنفسك، واستقبحْ من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وحسِّنْ مع الناس خُلقك. ١
الواقع ، يفرض على المداري أن يكون متوازنا بأخلاقه وأفعاله وأفكاره وإيمانه حتى يؤثر إيجابا على مستمعيه دون أدنى صعوبة ، ويترك انطباعا ملموسا في نفوسهم ..وللفكرة انسيابا خاصا حيث الطرح ، فلا تتقيد بقالب بل يحدده المغزى والغاية ، فنرى العاقل مثلا يبدي رغبته ويسعى لجمع الكلمات المناسبة حتى تذوب في نفسه و مختلف الأفكار المرتبطة مع بعضها لتعطي رونقا عقليا مميزا وهو بدوره يفرض ويعمق الفكرة ، ليفهمها الحاضر كلا على قدر مايملك من قدرات .. لذا يعد بيت الأفكار مخزنا عابقا بخلايا الأفق المطلوب لفهم المتلقي..
ولكي نفهم حجم معقول العاقل ، لابد أن نشاركه الحوار ونعرف مستواه الذاتي وقدراته العقلية ، سواء على الصعيد العمقي أو البسيط .. أو ندرس البيئة التي تبنته ، وآلية المجتمع التي عاصرت الفرد منذ طفولته وحتى قوامه.. ومن هنا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "خالطوا الناس مخالطة إن مِتُّم معها بَكَوا عليكم وإن عشتم حَنُّوا إليكم" ٢
والدين الاسلامي أولى أهمية بالغة وحيث الفارقة الفردية لكل إنسان، معتمدا على القول القرآني وعدة الأحاديث والروايات ، فمراعاة العقلية الشعبية يعد أمر مهم في كل بناء ذاتي فرديا كان أو جمعياً ..
كما ورد في الآية الكريمة :(ورفع بعضكم فوق بعض درجات)، هذه الدرجة ، هي محطة اختلاف العقلية والالتزام الأخلاقي والخلقي، ومستوى نضجها بين الأفراد ..هو عاقل نعم ، ولكن لعقليته حدود ، ربما لا تفهم الرد ولا تعي إدراكاته بعض المفاهيم ، لذا يتعين على البادئ أن يكون حجم فرضياته على قدر استيعاب الطرف الآخر.. عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لمالك الأشتر: "وإن ظنّت الرعيّةُ بك حيفاً، فأصحِر لهم بعُذرك، واعدل عنك ظنونَهم بإصحارك، فإن تلك رياضةٌ منك لنفسك، ورفقٌ منك برعيتك، وإعذارٌ تبلغ فيه حاجتَك من تقويمهم على الحق" ٣
في حجم بعض المنبهات القائمة أنوار مختلفة البريق في نفوس البشرية ، أحدهم له طابع السطحية في الفهم ، وآخر يتمتع بفيض نوراني محكم، الاسلام وحيث منهجية النبوة ، خصصت برنامجا أخلاقيا لهيكلية الفرد المؤمن ، بطريقة تستوعب الفكرة و حيوية عقليته دون تفريط أو إفراط مع مراعاة اليقظة ونفس المتكلم ..
(قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّا نجد الرجل يحدّث، فلا يخطئ بلام ولا واو، خطيباً مصعقاً، وقلبه أشدّ ظلمةً من الليل المظلم، ونجد الرجل لا يستطيع يعدّ عمّا في قلبه بلسانه، وقلبه يزهر كما يزهر المصباح) ٤
وهناك ظاهرة مرئية بين جميع الكائنات فلا يتطابق فردين حتى ولو كانا أخوين أو من تجمع عائلي واحد.. لأن التمايز بين فردين ونسبة إدراكهم وانسجامهم والفكرة ، أعطى للحياة معنى خاصا ، بهذه الفارقة استطعنا أن نميز ونعرف معاني الكثير من المضامين الأخلاقية وغيرها.. فكيف نعرف المتميز من غيره إن لم يكن مختلفا فرديا ، لأن الصفة تتبع الموصوف والأثر يدعونا أن نخاطب كل واحد على نمط عقليته وصفتها .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم".٤
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أحسن الكلام ما زانه حُسنُ النظام، وفهمه الخاص والعام".٥
فكل مصدر فكري عقائدي قائم على الكلام وعلمه التشريع قائم أيضا على الكلام ، وكيفية إيصال فكرة الخلق والتخليق إلى ذهن المتلقي إن هو إلا كلام ، إذن لابد أن نعرف من هو الافضل ، والمثقف ، والساذج ، والذكي ، والمتقي، وكفيف الفهم ، وأن تعدد الأسلوب في المعاملة وعلى مدى فهم وعقلية الطرف المقابل أعطى رونقا خاصا وعمقا مترابطا وسلسلة تجتمع بالنهاية حيث الغاية والهدف الموحد ، وهي بالتالي تحدد العامل الرئيسي لكل محاورة اجتماعية . (فقولا له قولا لينا لعه يتذكر أو يخشى).
إذ أن معرفة التفاوت بين الأفراد تساعد على فهم الآخر وتسليط الضوء على مجموع تصرفاتهم فلا يمكن التوقع من كل إنسان أن يعامل نفس المعاملة نسبة إلى غيره فلكل فرد أسلوبه المعتد به في التعبير وردة أفعاله السلوكية . فلنكن كما ورد في الحديث الشريف:
"رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس".٦
المداراة خطوة ملازمة بالمعرفة الربانية ، وكل هدف إيماني يلزمنا التعامل برقة الأسلوب وجمال المعاملة ، ومداراة متفوقة ، لتتحقق الغاية من تبليغ الرسالة ، حيث إنّ عقول الناس متفاوتة الفهم والاستيعاب فالمداراة أن تتعامل معهم على قدر عقولهم.
اضافةتعليق
التعليقات