كثيرا ما تأخذنا الروايات عن أهل البيت عليهم السلام إلى مكامن القوة والشجاعة وريحانة الثبات، قرأنا عن دروعهم وماكان لوقع السيوف والكلمات من أثر كبير في تغيير عوالم كاملة مرت بها عبر الأجيال وأصبحت نسخ تتناقل فيما بيننا، حتى تكون أشهر المناسبات والكرامات التي يعتلي الخطباء المنابر فيها يبدأون بسرد ذاتي لكل حدث كان، فتنطلق منه نبال الحدث كأنه الأمس ونحن نستعيده اليوم.
حتى جعلنا نقرن شجاعتنا وقوتنا بذكرى الأحداث الماضية، بينما صفاتهم تتعدى محور الحديث الذي لا تسعه خطبة أو شهر ولكن المرتكز الأساس كان هو شجاعتهم، بينما نحن اليوم في جيل أغلبهم لا على السواتر وقف ولا لفقير بذل ولا على حق ثبت ولا يحسن غير التعليق على مشاريع الآخرين وهو مجرد لسان، تأخذه العزة بالنفس لأبسط حدث فينتفض في وقتها دون تئن باحثا عن أتفه الأسباب للنيل من المقابل ثم نقف أمام الملأ وننطق أننا نقتدي بأخلاق أهل البيت بينما لو طرحت سؤالا على أغلب القائلين هذا المعنى، ماذا تعرف عن حِلم أهل البيت؟
سيروي لك ماقيل في مجالس العزاء وما روي عن سير الشهداء، بعيدا عن محور السؤال، بينما الأمة الإسلامية في هذا الوقت تواجه موجة كبيرة من تيارات زائفة للأخلاق وقيم مستمدة من غير ما نص عليه ديننا، والتي انعكس مفهومها على جيلنا الحالي دون أن نفقه ما نحن آخذيه، فأمسينا بأمس الحاجة إلى أن نتحلى بأخلاق ديننا وبآداب إسلامنا، وأن يكون المسلم فينا مميزاً عن غيره بدينه وبلبسه وبكلامه وبأخلاقه، وهذا ما جاء به رسولنا الكريم لصلاح الأمة، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: (إِن اللَّهَ لا يُغَيرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ومن هذه الأخلاق التي يتميز فيها الإنسان المسلم عن غيره وهو خلُق الحِلم والأناة.
من خلق الأتقياء.. الحِلم
لقد كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون من أهل بيته، المثل الأعلى في الحِلم، وجميل الصفح، وحسن التجاوز وقد زجَزت أسفار السيَر والمناقب، بالفيض الغمر منها، وإليك نموذجاً من ذلك:
حين سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناداه أمير المؤمنين (عليه السلام): "مهلاً يا قنبر، دع شاتمك، مُهاناً تُرضي الرحمن، وتُسخِط الشيطان، وتُعاقب عدوك، فوالذي فلَق الحبة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخَط الشيطان بمثل الصمت، ولا عُوقِب الأحمق بمثل السكوت عنه". وقال (عليه السلام): "أول عِوض الحليم مِن حلمه، أن الناس أنصاره على الجاهل".
فالحلم هو التأني وكظم الغيظ وضبط النفس بحيث لا تحرك قوة الغضب الشخص بسهولة ولا تؤدي به مكاره الدهر إلى الاضطراب، وكظم الغيظ هو اخفاء الغضب وحفظه عند هيجانه فيكسر شوكته من غير ذل وهو صفة تحمل صاحبها على ترك الانتقام ممن أغضبه مع قدرته على ذلك وكلاهما من الأخلاق الحسنة، ومِن أروع ما نظمه الشعراء في مدح الحِلم، ما رواه الإمام الرضا (عليه السلام)، حين قال له المأمون: أنشدني أحسن ما رويت في الحِلم، فقال (عليه السلام) :
إذا كان دوني مَن بُليتُ بجهله أبَيت لنفسي أنْ تُقابل بالجهل
وإنْ كان مثلي في محلي مِن النّهى أخذْت بحلمي كي أجلّ عن المثل
وإنْ كنت أدنى منه في الفضل والحِجى عرفت له حقّ التقدّم والفضل
فقال له المأمون: ما أحسن هذا، هذا مَن قاله؟ فقال: "بعض فتياننا".
كما وصف الخالق عز وجل بعض أنبيائه بالحِلم فقال عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾، و وصف إسماعيل عليه السلام بالحِلم في قوله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾، كما وردت آيات قرآنية عديدة تشير إلى هذا الخُلق الفاضل فالحِلم من أشرف الأخلاق والصفات، وأحقها بذوي الألباب والقلوب المتعلقة بالله سبحانه وتعالى، لما فيه من سلامة العِرض وصَونِه، وراحة الجسد وسكونه، واجتلاب الحمد والتنعم بالمغفرة، ويرفعنا إلى معالي الأخلاق لنتذوق لذتها وفوائدها.
ومن فوائد الحِلم:
_ وسيلة للفوز برضا الله وجنته، وهو دليل على قوة إرادة صاحبه، وتحكمه في انفعالاته، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله: (ليس الشديد بالصرعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
_ الحلم وسيلة لكسب الخصوم والتغلب على شياطينهم وتحويلهم إلى أصدقاء، قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}، وقد قيل: إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعتَه جوابا، وأوجعتَه عقابا.
_ الحلم وسيلة لنيل محبة الناس واحترامهم، فقد قيل: (أول ما يُعوض الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره) ويجنب صاحبه الوقوع في الأخطاء، ولا يعطي الفرصة للشيطان لكي يسيطر عليه.
وفي النهاية نقول: ما أحوجنا إلى التحلي بهذا الخُلق الفضيل، والسلوك القويم حتى نكون مِن الذين ينعم عليهم الخالق عز وجل بالثواب العظيم.
اضافةتعليق
التعليقات