لم تمنحني الحياة الفرصة لأكون قرب جدتي، منذ طفولتي كنتُ أراها في وقتٍ قصير من السنة أو قد تمرُ سنة كاملة دون أن أراها.
إن للجدات قداسة جدران المساجد، تحوي في جوفها ابتهالاتٍ سماوية، يحملن حكمة الحياة التي تراكمت فيهن يوماً تلو آخر. لطالما تأملت كيف يسبقنا كبار السن في المسير بينما لا نزال نحن في بدايته! كيف اجتازوا آلاف الخطى بينما نحن لا نزال نترنح في خطواتنا لا نثبت على سبيل! كيف يختزلون الحياة في أمثلة أو عبارات عامية بسيطة لكنها فعلاً تختزلُ حياة كاملة.
أن تجلس مع رجلٍ أو امرأة، خسرا كل شيء واضمحل الشباب المستعر فيهم، تجعدّت ملامحهم، واشتعل الرأس فيهم شيباً. تجردوا من كافة الحدود والمخاوف، لم يعد يهمهم كيف يبدو شكلهم في المرآة، بل باتوا يتهربون من مواجهة ملامحهم المتعبة، لم يعد يهمهم ما يرتدون وما يلبسون، وما يُقال أو يحدث في العالم، وصلوا لمرحلة اليقين بأن "كلُ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه"، وما أعظمها من خلاصة! وما أسعد من اكتشفها في ريعان شبابه قبل أن تصفعه الحياة بها حين "يُرَدُ إلى أرذل العُمر" وحين "لا يعلمُ بعد علمٍ شيئا".
إن في القرآن الكريم مواعظ تكفي لكل دقيقة من يومنا، أن تُيّسرنا ونحن محصنين بالحكمة قبل أن تفرضها الحياة علينا، أن تعرف أنك هالكٌ وإنه حيٌّ قيّوم، وأنت في جذوة فتوتك، خيرٌ من أن تجسدها لك الحياة في وجودك، حيث لا يبقى في عمرك عمراً لتبحث عن حقائق أخرى أو تخوض تجارب مختلفة، لقد وصلت لذاك الطريق الفرعي الذي ينتهي بجدارٍ مرتفع، لا طاقة لك بتسلقه فما تفعل سوى أن تستسلم!.
جدتي تحبني دون قيد أو شرط، تحبني بفطرة الأطفال، تُقبل شاشة الهاتف كلما حدثتها عبر "مكالمة الفيديو"، تصلي على النبي وتقول فور رؤيتي وتُتبعها بـ "أنا أحبك"، جدتي تعرف قيمة الحياة وقيمة الكلمة، لا بد إنها لم تكن بهذه البساطة في شبابها، وإن هكذا كلمات لم تكن تنساب منها بيسر، جدتي تعلمت من الحياة أن تقولُ كل شيء دون تفكير وتمحيص، دون مكابرة، دون أنانية، كلما رأيتها أو حدثتها، تبدأ الحديث بكلمات حبٍ واشتياق عذبة...
رائحة جدتي تشبه الماضي، الحزن المعتق في ثنايا ثوبها النظيف، كانت تأخذني لسنواتٍ لم أكن فيها، رائحة صابون الغار التي تغسل بها ملابسها بنفسها، خمارها الأبيض الذي ترتديه تارة والأسود تارةً أخرى... درستني جدتي الصمت، كانت تقول دائماً "الصمتُ أفضل للمرء"....
أورثتني خصالاً عديدة، أورثتني صبراً لا ينضب، رقةُ قلبٍ ودمعةٌ مرتجفة متأهبة للهطول، أورثتني عنايتها الفائقة بنظافتها، عطرها الليلكي الذي لا يفارقها، سريرها الذي تعتني بوضاءته، علمتني جدتي الدفء، حين منحتني إياه بفطرتها النقية.
تُحبُ جدتي أن تفتح النوافذ والأبواب، أتعبها ضيق الدنيا فلا تحب البقاء في أماكن مغلقة تماماً، تحب الشمس وتحرص أن تجلس لوحدها كل يوم تحت شمسِ الصباح. لطالما تساءلتُ عما يشغل بالها وكيف تراها تُفكر في عمرٍ مثل هذا...
تضيقُ بنا الدنيا يا جدتي، فأيُ نوافذٍ نُشرع لتتسع؟
اضافةتعليق
التعليقات