الحق كمبدأ في جميع النظم والثقافات؛ لا تكون له قيمةٌ عملية إلا إذا فرض احترامَه على سائر المكلفين به، وهذا الاحترامُ الذي يفرضه على سائر المكلفين به يكون واجبًا يقع على كاهلهم من زاوية أخرى، فهو واجبٌ يفرضه الشرع؛ بحيث إذا لم يقم المكلفون به أجبرهم القانونُ التشريعيُّ على ذلك، ومن خلال ذلك تتكامل في الإسلام العلاقةُ بين الحق والواجب.
كما أن اعتبار الإنسان عضوًا في مجتمعه، وجزءًا من محيطه، يجعل علاقته مع ما حوله علاقةَ تفاعل بين طرفين، تقتضي هذه العلاقة أن من له حق فإن هناك في المقابل من عليه واجب، والأصل في الحق والواجب أنهما يرجعان إلى معنًى واحدٍ وهو الثبوت، فكلاهما في اللغة ثبوت وإلزام، وبناءً عليه فإن الحق والواجب يؤديان معنًى واحدًا، والفارق بينهما بحسب التعدية إن كانت له أو عليه، فيقال: حق له وحق عليه. وكذلك الواجب.
ولا إشكال في التعامل مع الفروق التداولية أو القانونية؛ في جعل ما يُلزم به الإنسان واجبًا عليه، فتكون الواجباتُ ما على الإنسان فعله تجاه نفسه ومجتمعه ودولته، والحق ما يُطالب به لنفسه ولمجتمعه ودولته، وإذا وجدت إشكالية في هذا التعامل، هو وجود إنسان أو طائفة أو حزب يطالب بما له من حقوق دون أن يؤدي ما عليه من واجبات، فحينئذٍ تصبح المعادلة مضطربةً بين الحق والواجب، فكل حق في الغالب يقابلُه واجبٌ، وكل واجب يقابله حق، فما هو حق لإنسانٍ هو واجبٌ على الآخر، وكل واجب على إنسان هو حق لآخر.
الواجب والحق متلازمان في كل تشريع سماوي أو وضعي، فالواجبات تقابلها الحقوق، والحقوق تقابلها الواجبات. العامل عمله التزام واجب، فإذا عمل صار له حق، وهو الأجر أو المكافأة، والطالب دراسته واجب، فإذا أدى واجبه صار من حقه أن ينال النجاح.
والتاجر من الواجب عليه الأمانة في المعاملة، فإذا أدى ما عليه صار من حقه أن يأخذ الثمن والإنسان أداؤه ما عليه من التزام ألزمه به الله جل جلاله كان ممن أدى الواجب، وكان حقاً له أن ينال الجزاء الأوفى من مولاه - عز وجل.
فالحقوقُ حتى تطبق بشكل إيجابيٍّ صحيح لا ينبغي فصلُها عن فكرة التلازم مع الواجب، فمن طالَبَ بحقه لا ينبغي أن يُهمل واجباته، ومن أدى ما عليه من واجبات فلا ينبغي إهمالُ حقه، والإسلام قد استعمل كلمةَ الحق ليفيد معنى الحق والواجب معًا.
وأغلب ما ورد في القرآن من فعل “حقّ” جاء متعديًا بحرف “على” ليفيد ثبوت الشيء ولزومه ووجوبه. من ذلك مثلًا قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، وأيضًا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
ويرد في هذا المعنى حديثٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه: «مَن ذبَّ عن عِرض أخيه بالغيبة، كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار». وفي حديث آخر: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سأل معاذًا: «يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟» قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّه وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
وواضح أن هذا النوع من التلازم والتناوب بين “الحق” و“الواجب” يُفيد أن ما يجب على طرفٍ هو حقٌّ للطرف المقابل، فما يجب على الله هو حق للإنسان، وما يجب على الإنسان هو حق لله.
وعلى هذا المنوال تمَّ ترتيب العلاقة بين حقوق الزوجة على زوجها والزوج على زوجته، كما في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. والدرجة العليا للرجال هي بعض أعباء التكليف، وليس زيادةً في التشريف؛ لأن المقياس في التشريف الحقيقي هو التقوى.
كذلك جاء هذا التلازمُ بين حقوق الحاكم وحقوق المحكومين؛ فما يجب على “الراعي” هو حقٌّ للرعية عليه، وما يجب على الرعية هو حق للراعي عليها. والحق الذي يتردد في هذا المجال هو حقُّ العدل وحق الطاعة؛ فمن حق الرعية أن يعدل فيها الراعي ومن حق الراعي أن تُطيعه الرعية، فالعدل حقٌّ للرعية وواجبٌ على الراعي، أما الطاعة فهي واجبةٌ على الرعية وحقٌّ للراعي، والعدل على مستوى علاقة الراعي بالرعية يقتضي الجمعَ بين الاثنين؛ بحيث يكون عدل الراعي بمثابة تعويض لطاعة الرعية.
ومثل هذا يقال في ترتيب العلاقة بين الحق والواجب على مستوى العلاقة بين الناس؛ فالقيام بما يفرضه الواجبُ قد يكون شرطًا في التمتع بالحقوق، والتمتع بالحقوق يفرض القيامَ بالواجبات. والمسألة في نهاية التحليل مسألة معاملة بالعِوَض.
يقول مالك بن نبي (ت 1973م): “إن الحق ليس هديةً تُعطى ولا غنيمةً تُغتَصب، وإنما هو نتيجةٌ حتميَّةٌ للقيام بالواجب، فهما متلازمان”.
وهناك بعضُ الإشكالات في هذا المقام تحتاج إلى بعض التوضيح، أوجزها فيما يلي:
أولًا: إن ما سبق تقريرُه في العلاقة التكاملية والتبادلية بين الحق والواجب على مستوى الأفراد والمجتمعات، لا يجعلنا نغفل أن هذا في دائرة الحقوق القانونية والأخلاقية، بينما مفهوم “حقوق الإنسان” متحرِّر من التقيد بعلاقة التلازم القائمة بين الحق والواجب؛ لأنها علاقة مقايضة، ففكرة “الحق” على المستويين القانوني والأخلاقي تستدعي فكرةَ “الواجب”، لكن مفهوم “حقوق الإنسان” لا يستدعي أيَّ مقابل ولا أي عوض.
حقوق الإنسان بالمعنى المعاصر هي حقوقٌ له من حيث هو إنسان، وليس من حيث إن عليه واجبات، فهي تُولد معه وتبقى معه حتى لو لم يلتزم بواجباته. فمثلًا له حق الحياة والمساواة والعدالة والحرية وغيرها، حتى لو أخلّ ببعض واجباته القانونية فإنها مكفولة حسب الفطرة والحق الطبيعي له.
ثانيًا: وفيه عرض إشكال قائم على أولوية التقديم، هل هو للحق أم للواجب؟ فأنصار مذهب الحقوق الطبيعية يرون أن الحقَّ أسبقُ من القوانين الوضعية المقررة للواجبات، فلزم أن يكون الحقُّ أسبق، وهو ما يعني أن الإنسان يكسب أولًا حقوقَه كمعطيات طبيعية وكرأس مال أولي، ثم يلتزم بعدها بأداء واجباته.
ويعتبر موقف فلاسفة القانون الطبيعي المنطلق، الذي تأسست عليه المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، التي تُولي اهتمامًا كبيرًا للحقوق على حساب الواجبات، وعليه فإن تلك الحقوق موروثة وفطرية، وهي سابقة على الواجبات لأنها مكتسبة من القانون الوضعي.
أما أنصار الفلسفة المثالية، وأبرزهم الفيلسوف إيمانويل كانت؛ فيعتقدون أن الأولوية للواجب على حساب الحق؛ لأن الأخلاق- كما يقرر كانت- تقوم على فكرة الواجب لذاته، فالواجب يقتضي القيامَ بالعمل لذات الواجب وليس لما يترتب عليه من حقوق. فالواجب أمرٌ مطلق صوري منزَّه عن الأغراض والنتائج والمنافع، ولذلك فأولوية الواجب تعدُّ مقتضًى عقليًّا.
وأعتقد بعد عرض هذين الرأيين؛ أن التقديم أو التأخير بين الحق والواجب مردّه للعدالة، فالعدل هو أساس التقديم والتأخير، فمن رأى تقديمَ الحق هو الأولى، فيُخشى أن يكون إهمالُ ما عليه من واجبات سببًا في فساد الحياة وفوضى المعاش، ومن يرى أن الواجبات على الغير هي الأَولى؛ فلربما أدى لظلمِ أولئك القائمين بالواجبات دون أن تحضر معها مباشرةُ حقوقهم، وهذا قد يؤدي للظلم والتعسف. والأولى أن يراعى العدل في الأمرين فهو مقياس العلاقة بينهما، وما سوى ذلك اختلافٌ فلسفيٌّ لا يقوم عليه عمل.
اضافةتعليق
التعليقات