حين نتصفح أرشيف أمير الحق، ونقلّب تراثه ونتعمّق بما خلّفه للأمة الاسلامية وللعالم أجمع، من تركة ناصعة الجبين عالية المضامين.. تركة أقل ما يقال فيها أنها كنوز خالدة.. تستوقفنا كثرة ما دوّنه الكتّاب والمؤرخون من أسفار جليلة القدر في حق المولى أبي الحسن.
فما الذي كتبوه؟ وما الذي لم يكتبوه أصلا؟ إنه لأمر محير فعلا.. كيف يمكن للكاتب أن يلم بكل جوانب شخصية كشخصية الامام؟ وكيف يمكننا أن نلج بحره العميق ياترى؟
لكنني سأتناول في هذا المقال صفة لعلي هي له ولكنها ليست فيه!!
كيف يمكن ذلك؟ هل هي أحجية أم لغزا؟
قبل أن نبيّن الصفة لننقل إليكم صورتين فقط من صور قضاء أمير المؤمنين عليه السلام لنتبين مقدار ذكائه وفطنته في الحكم بين الرعية..
الصورة الأولى:
((روى أبو بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ 1 (عليه السَّلام) قَالَ دَخَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) الْمَسْجِدَ فَاسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ يَبْكِي وَحَوْلَهُ قَوْمٌ يُسْكِتُونَهُ.
فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السَّلام): مَا أَبْكَاكَ؟
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ شُرَيْحاً قَضَى عَلَيَّ بِقَضِيَّةٍ مَا أَدْرِي مَا هِيَ إِنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ خَرَجُوا بِأَبِي مَعَهُمْ فِي السَّفَرِ فَرَجَعُوا وَلَمْ يَرْجِعْ أَبِي، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ، فَقَالُوا مَا تَرَكَ مَالًا، فَقَدَّمْتُهُمْ إِلَى شُرَيْحٍ فَاسْتَحْلَفَهُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أَبِي خَرَجَ وَمَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ .
فَقَالَ لَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: ارْجِعُوا.
فَرَجَعُوا وَالْفَتَى مَعَهُمْ إِلَى شُرَيْحٍ.
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: يَا شُرَيْحُ كَيْفَ قَضَيْتَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ادَّعَى هَذَا الْفَتَى عَلَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي سَفَرٍ وَأَبُوهُ مَعَهُمْ فَرَجَعُوا وَلَمْ يَرْجِعْ أَبُوهُ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ، فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ، فَقَالُوا مَا خَلَّفَ مَالًا، فَقُلْتُ لِلْفَتَى هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا تَدَّعِي، فَقَالَ لَا، فَاسْتَحْلَفْتُهُمْ فَحَلَفُوا.
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: هَيْهَاتَ يَا شُرَيْحُ هَكَذَا تَحْكُمُ فِي مِثْلِ هَذَا؟
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ؟
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: وَاللَّهِ لَأَحْكُمَنَّ فِيهِمْ بِحُكْمٍ مَا حَكَمَ بِهِ خَلْقٌ قَبْلِي إِلَّا دَاوُدُ النَّبِيُّ (عليه السَّلام)، يَا قَنْبَرُ ادْعُ لِي شُرْطَةَ الْخَمِيسِ، فَدَعَاهُمْ فَوَكَّلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنَ الشُّرْطَةِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى وُجُوهِهِمْ.
فَقَالَ: مَا ذَا تَقُولُونَ أَ تَقُولُونَ إِنِّي لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ بِأَبِي هَذَا الْفَتَى، إِنِّي إِذاً لَجَاهِلٌ، ثُمَّ قَالَ: فَرِّقُوهُمْ وَغَطُّوا رُءُوسَهُمْ.
قَالَ الراوي: فَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَأُقِيمَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى أُسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِينِ الْمَسْجِدِ وَرُءُوسُهُمْ مُغَطَّاةٌ بِثِيَابِهِمْ، ثُمَّ دَعَا بِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبِهِ.
فَقَالَ هَاتِ صَحِيفَةً وَ دَوَاةً، وَجَلَسَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَجَلَسَ النَّاسُ إِلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُمْ إِذَا أَنَا كَبَّرْتُ فَكَبِّرُوا، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ اخْرُجُوا.
ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ اكْتُبْ إِقْرَارَهُ وَمَا يَقُولُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِالسُّؤَالِ.
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام): فِي أَيِّ يَوْمٍ خَرَجْتُمْ مِنْ مَنَازِلِكُمْ وَأَبُو هَذَا الْفَتَى مَعَكُمْ؟
فَقَالَ الرَّجُلُ: فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: وَفِي أَيِّ شَهْرٍ ؟
قَالَ: فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: فِي أَيِّ سَنَةٍ؟
قَالَ: فِي سَنَةِ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: وَإِلَى أَيْنَ بَلَغْتُمْ فِي سَفَرِكُمْ حَتَّى مَاتَ أَبُو هَذَا الْفَتَى؟
قَالَ: إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: وَفِي مَنْزِلِ مَنْ مَاتَ؟
قَالَ: فِي مَنْزِلِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ.
قَالَ: وَمَا كَانَ مَرَضُهُ؟
قَالَ: كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: وَكَمْ يَوْماً مَرِضَ؟
قَالَ: كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: فَفِي أَيِّ يَوْمٍ مَاتَ وَمَنْ غَسَّلَهُ وَمَنْ كَفَّنَهُ وَبِمَا كَفَّنْتُمُوهُ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ وَمَنْ نَزَلَ قَبْرَهُ؟
فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ جَمِيعِ مَا يُرِيدُ كَبَّرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وكَبَّرَ النَّاسُ جَمِيعاً، فَارْتَابَ
ُأولَئِكَ الْبَاقُونَ وَلَمْ يَشُكُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَرَ أَنْ يُغَطَّى رَأْسُهُ وَيُنْطَلَقَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ.
ثُمَّ دَعَا بِآخَرَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ.
ثُمَّ قَالَ: كَلَّا زَعَمْتُمْ أَنِّي لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ.
فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا أَنَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْمِ وَ لَقَدْ كُنْتُ كَارِهاً لِقَتْلِهِ، فَأَقَرَّ .
ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ كُلُّهُمْ يُقِرُّ بِالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْمَالِ.
ثُمَّ رَدَّ الَّذِي كَانَ أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ فَأَقَرَّ أَيْضاً فَأَلْزَمَهُمُ الْمَالَ وَالدَّمَ)).
الصورة الثانية:
((أخبرنا سماك بن حرب عن حنيش بن المعتمر أن رجلين استودعا امرأة من قريش مائة دينار وقالا لا تدفعيها إلى أحد منا دون صاحبه حتى نجتمع، فلبثا حولا فجاء أحدهما فقال إن صاحبي قد مات فادفعي إلي الدنانير فأبت وقالت إنكما قلتما لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه فتوسل إليها بأهلها وجيرانها قلم يزالوا بها حتى دفعتها، ثم لبثت حولا فجاء الآخر فقال ادفعي إلي الدنانير فقالت إن صاحبك جاءني فزعم أنك مت فدفعتها إليه، فاختصما إلى عمر بن الخطاب فأراد أن يقضي عليها فقالت أنشدك الله أن ترفعنا إلى علي ففعل فعرف علي أنهما قد مكرا بها فقال أليس قلتما لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه قال بلى قال مالك عندنا فجئ بصاحبك حتى ندفعها إليك!!..)) فبهُت الذي مكر.. والنتيجة هي انكشاف الخديعة وافتضاح أمر الماكريْن.
فالصور التي نقلها التاريخ لنا كثيرة وهي تدل بما لا تدع مجالا للشك، على حنكة الامام وفطنته وذكائه الخارق.
ولكن ما الفرق ياترى بين الذكاء والدهاء؟
"الذكاء هو حدة القلب وسعة الفهم، اما الدهاء هو الفكر وجودة الرأي، والداهية هو البصير بالأمور والحيل، والفرق بينهما هو أن الذكاء دون الدهاء، لأن كل داهية ذكي، وليس كل ذكي داهية، فالدهاء أعم لتضمنه الذكاء وزيادة".
والذكاء بالتالي هو قدرة عقلية تتجاوب بسرعة بديهية مع الأمور.
وعندما ندرس حياة الامام كحاكم ورئيس دولة، لن نعثر في قاموسه على شيء اسمه المنطق البراغماتي (الذرائعي) وهو المنطق الذي يبرر الوسائل من أجل الوصول إلى الغاية، مثلما اعتمده خصمه معاوية بن أبي سفيان في حكومته، ولذلك نرى أن الإمام ينتقد هذا المبدأ بشدة بل ويرفضه رفضا قاطعا ويقول: (ليس معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر).
أي أن معاوية يتبع سياسة تبرير الوسائل وهو ما يتنافى ويتنافر مع رؤية الإمام ومنهجه الحق، لأنها تختلف مع المفاهيم القرآنية والتي تربى في ظلال صاحبها وأعني به رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ أن الدين هو غاية الغايات وأن السعادة الحقيقية للمجتمع البشري تكمن في التمسك بمبادئ الدين.
وعودة إلى قول الامام علي بن أبي طالب بحق داهية العرب (معاوية):
(وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ وَلَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ وَلَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَلَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ).
هذه الكلمة الصادرة عن علي تكشف للرائي عن حقيقته الناصعة عليه السلام.. فهو ليس أقل دهاء من معاوية لكن الغدر والمكر ليست من طباع علي ولن تكون.
لأن عليا يعلم علم اليقين أن المكر يُسقط صاحبه إلى الحضيض، ولن تقوم له قائمة أبدا ما دام متلبسا بلباس المكر والغدر والتدليس... ولأنها بعبارة واحدة من صفات ابليس.
فكيف يكون عليا وقد أُشتق اسمه من العلي الأعلى، أن يكون رديف ابليس اللعين المطرود من رحمة الله؟! ألم يقل رسول الله فيه: علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار؟
هذا أولا..
وثانيا: لأن عليا عليه السلام يدرك تماما عواقب الأمور.. وإن التاريخ لن يرحم من كان ماكرا ومخادعا.. بل سيكيد له مكرا بمكر.
"مكر التاريخ هو الذي طالما قلب السحر على الساحر وجعل من الرابحين أولا الخاسرين أخيرا.
مكر التاريخ هو كيد التاريخ بعبارة أخرى، فالقادة العسكريون والحالمون بالامبراطوريات الممتدة والعظيمة، يكيدون للشعوب كيدا ولكن التاريخ يكيد لهم كيدا اخر".
واخيرا اقول لداهية العرب:
لا قرت عيونك يابن هند.. ياداهية ال... فلقد ذهبت بعارها وشنارها، واصبحت في مزبلة التاريخ تتبعك اللعنات على ما قدّمتَه وما جنته يداك.
اما علي فسيبقى عليّا رغم تدليس المدلّسين ومشوّهي حقائق التاريخ.. ستظل سيرته ناصعة البياض وضّاءة بالنور، لأنها مرآة عاكسة لسريرته الصافية والبعيدة عن المكر والغدر والخيانة كبُعد المشرقين.
اضافةتعليق
التعليقات