ربما ستكون لكلمات البوح والشوق أكثر من فائدة، اليوم وصلت لقناعة تامة عمياء، أن لكل منا نقطة يتوقف عندها النبض ولاتنتسى وتعج منها رائحة تعود بها لأيامها الخوالي وتتقدم هذه الأحداث رائحة الجدران حينما يلامسها الماء، أقف لثواني عند العتبة استنشقها كأنها أغلى العطور لأنها تحمل بداخلها لمسات أنامل أشخاص أخذوا كل شيء فينا لكنهم لم يأخذونا فقط هي ساعات تبعدنا عنهم في حساب السماوات وأيام لاتحزر في حسابنا..
حينما تمر هذه الرائحة على أنوفنا يعود شريط الزمن إلى الوراء أدراجا، ساعات، أيام، حتى أنه يعود على الأشخاص، استمع الآن إلى صوت المكنسة بباب المنزل وصنبور الماء والرطوبة فاحت رائحتها امتدت من الباب يدا مجعدة ملائكية كتب من عروقها السلام، سحبت الكرسي الحديدي ذو الأربع أرجل المنهكة لكنه وفي، قاوم وشاب معه وتجعدت أرجله مع يد صاحبه، وضع على طرف الحائط متوسط مابين الباب وبينه وجلس بقوامه الرشيق وبات يوزع السلام على المارة بابتسامته وصوته الشجن والشارع أصبح مرآة للجمال رغم ترابه، كيف لبشر أن يصنع من أرض وبعض رشات المياه مكان يستهوي الجميع.
مرت الساعات ونفذ وقت العصر وشربت الشمس من مياه جدي التي رشها لتبريد المكان، دخل بخطواته وضع كل شيء في مكانه فهو مهووس بأشيائه أو عاشق لها، تعود الذاكرة بخطواتنا المتسارعة أنا وبنات خالي وخالتي الجميلة نحو السطح نرش المكان نحجز الزوايا ونمد أفرشتنا ثم فجأة نقرر النزول، نفترق جزء تحتضنه الغرفة الأخيرة وجزء تحتضنه غرفة الجلوس وتعتلي الضحكات بعدها ونتهامس، في ليلة مر جدي من جانب الجدار ناديناه لنكتة في أنفسنا وقف مستعجلا أخبرناه انطفأ التيار ضحك حتى اصطدم بالجدار اعتلت الضحكات وكأنه صديق لنا بنفس عمرنا لم نشعر أنه يكبرنا يوما كنا نهمس له بأذنه نتوسد أحضانه ونتغزل به بعيدا عن الوصف..
اشتقت لقبلاته الاستثنائية وضحكاته أو إنني اليوم أشهد أنني ظمآنة وهو من يرويني، سيتغير شي بسيط أو اليوم سيتغير كل شيء كبرنا وماعادت الأماكن تحمل ذات الرائحة ولا الجدران تقبل شرب المياه وماعاد الشارع يروي ذات السلام، أما الكرسي هرم وضاعت أجزائه بعد مغادرته أو بالأحرى لم يعد شيء كما كان ولن يعود اليوم، هجرت هذا المكان أنفاسه هكذا شعرت والطريق إلى المنزل أصبح أطول بكثير وخطواتي ثقلت ربما لأنني اليوم تأكدت أنه لم يعد موجود وغادر إلى الأبد.
كل منا فيه جرح لم يندمل بعد والأيام أخذت منه أشياء غالية، كل منا فقد أجزاء منه ولكن البعض منا لم يتقبل هذا الفقدان حتى تزول آثار المكان الذي كان يحويه، حتى تعود عقارب الساعة تسير حيثما توقفت حتى ندرك أن الجدران مجرد جدران وإن من كان فيها كان يمدها بتلك الرائحة، ليتنا لو نستطيع أن ننقل الشوق وبقاياهم على غصن شجرة بجانب عصفور وكل يوم تطوف حولهم الفراشات، الأرض قاسية جدا تنهكهم ثم تحتضنهم بقوه كبيرة حتى تحطم أضلاعهم.
هل جربتم شعور الشوق؟
شعور لايألفه غيرك ولايشعر به إلا وجدانك، إنه أشبه بوجه لذلك الانسان الغائب السارق معه جزء من الروح الذي سبب هذا الشعور اللامألوف بالروح، وحين الشوق له نشعر أن الكون ملأه ماهو إلا فراغ قاتل وروحك حينها تكون في جمع آخر ونود من الشوق الذي بنا لو أننا نملك جناحين فنغادر إلى حيث هم ونتوسد أحضانهم كما الماضي، فنشبع ظمأ أرواحنا العطشى.
يقول الشاعر خميس لطفي: كنّا وكان على مشارف دهرنا
قدرٌ يباغتنا ويطوي العمرَ في أسفارِه
وتهدهِدُ الدمعاتِ ذكرى الراحلين
والروح والأشواق في آنٍ تحدَّر منهما
جمرٌ تلظَّى باحتضار لقائهم فوق التراب وشوقه المخبوءُ
يرحل نحو دار الخالدين..
احتضنوهم قدر ماتستطيعوا واسقوا الوجنات من قبلاتهم فلا نعلم ماذا يخبئ لنا الغد ربما لن نستطيع حتى شم رائحة جدرانه المتعبة أو حتى إن كانت ستعود خطواتنا ولم يصبح الطريق نحوه دهرا كاملا من المشاعر فالشوق شيء قاتل ونحن الضحايا ننتظر الدور بالرحيل نحوهم أو البقاء في عذاب شوقهم.
اضافةتعليق
التعليقات