تبدو مرحلة المراهقة محملة بالتعقيدات بقدر ما توحي به من البساطة، فالمراهق الخارج من قوقعة الطفولة يبحث عن اعتراف من قبل من هم أكبر منه سنا، يشعر بأنه جدير بالانتساب لمرحلة الشباب أو الرجولة، لكنّه يلقى صدىً غير مقصود، وما يمكن توصيفه من قبله بأنه إنكار لحضوره، ما يبقيه في حيرة، ويشحن شخصيته بمزيد من القلق المتجدد الذي يستقي ديمومته واستعاره من ممارسات المحيطين به وأفكارهم عنه.
مما يجعله يعيش قلقا من ناحيتين، ينتابه شعور بالنبذ والتغريب ممن هم أصغر منه وممن هم أكبر، يكون حائرا في الانتماء، وباحثا عن صيغة ليبلور بها هويته وشخصيته، إذ إنه يمر بمرحلة اكتشاف للجسد، وتعرّف إلى خبايا عوالم الجنس الآخر، وقد يمر بمنعطفات خطيرة وينحو باتجاهات متشددة، لأنه يكون أرضا خصبة لامتصاص الأفكار وتقمص الشخصيات التي يعجب بها، أو يجد فيها أمانا آنيا أو قدوة متوقّعة.
وتتجسد تلك الصعوبات بأزمة الهوية التي يعاني فيها من عدم معرفتهم ذاتهم بوضوح أو عدم معرفة المراهق لنفسه في الوقت الحاضر، فيشعر بالضياع والتبعية والجهل بما يجب أن يفعله ويؤمن به، وهي علامة على طريق النمو يمكن أن تؤدي إلى الإحساس بالهوية أو تشتتها.
ايدولوجيا المراهقة
يرى عالم النفس الدنيماركي أريكسون أن "نجاح المراهق في تجاوز أزمة الهوية التي يمر بها يتوقف على ما يقوم به من استكشاف للبدائل، والخيارات في مجالات الأيدلوجية والاجتماعية وكذلك ما يحققه من التزام أو تعهد بالقيم والمعايير السائدة، وبناءا على ما يحققه من نجاح أو فشل في حل أزمة الهوية يتجه إلى أحد قطبيها.
فإما أن يتجه إلى الجانب الإيجابي فتتضح هويته ويعرف نفسه وهو ما يعرف بانجاز الهوية، وإما يتجه إلى الجانب السلبي منها ويظل يعاني من عدم وضوح هويته وعدم معرفة لنفسه في الوقت الحاضر وسيكون في المستقبل بما يعرف بتشتت الهوية".
وصنف علماء النفس وعلماء الاجتماع المراهقين تبعا لمعرفتهم لذواتهم ولتصرفاتهم المبنية على ذلك إلى أربعة اصناف، فمشتتي الهوية أزمتهم تتضح بعدم ادراكهم لتبني هوية معينة لشخصياتهم، إلا أن تبني بعضهم أفكار ومعتقدات واتجاهات معينة والاصرار عليها دون الرضوخ للحوار اخذوها من المحيط جاهزة صنفوا على أنهم منغلقي الهوية.
ففي الوقت الذي يسعى الاخرون للوصول إلى اكتشاف وتبني هوية واضحة المعالم إلا أنهم أخفقوا في ذلك فتم تسميتهم بمعلقي الهوية، واستخلصوا في نهاية البحث والدراسة إلى جماعة نجحت في الوصول إلى هوية واضحة المعالم وأجروا اكتشافات بديلة لتحديد التزامهم بايدولوجيا ثابتة هم منجزي الهوية.
ويلعب المجتمع دورا بارزا في التأجيل أو التعجيل بتحقيق الهوية، ويعد نمط التنشئة الذي يتبعه الوالدين واحدا من أهم المؤثرات الأولية في نمو الذات لأطفالهم.
صراعات متعددة
تعد أزمة الهوية المشكلة الرئيسية في مرحلة المراهقة عندما يبدأ الفرد يسأل نفسه: من أنا؟ من أكون؟ ما دوري في المجتمع؟ كيف أثبت وجودي؟ كيف أحقق النجاح؟، ويجد المراهق نفسه أمام مطالب متعددة، وأفكار متناقضة، مما يجعله يعيش صراعات متعددة وخاصة في ظل التغيرات الجسمية والعقلية والنفسية والانفعالية.
ولتجنب تلك الصراعات يذكر الدكتور المختص بالطب النفسي مهند فائز الرمضان أن هناك أساليب عديدة يجب على المجتمع والمدرسة والأسرة اتخاذها منهجا في التعامل مع المراهقين، منها "اشعاره بأنه أصبح رجلا قادرا على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات، فالكثير منا لا ينسى صورة الطفل لهذا المراهق، ويظل يعامله بها وأسوتنا في ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان يعامل صغار الصحابة بمبدأ التكليف، وحملهم مسؤوليات قد يعجز بعض الرجال عنها".
ويضيف إن "توعية الوالدين بالقاعدة التي تقول: (عش مع أبنائك لا من أجلهم) وذلك بنبذ أساليب المعاملة القائمة على الإهمال والتوبيخ وإعطاء الأوامر فقط، ويجب تقبله بأي شكل من الأشكال ومشاركته في اهتماماته وهمومه.
كما أن تشجيعه على تكوين صداقات جيدة يمكنه من خلال إثبات ذاته، ومناقشة أفكاره حول مستقبله المهني والتعليمي وآماله وطموحاته، وتنمية قدراته على التواصل مع الجماعة، والعمل معهم، يعطيه من القوة والوضوح لاختيار هويته".
النظام القيمي
تنمية قدرات الطلاب ومواهبهم واستغلال طاقاتهم وأوقات فراغهم بكل ما يفيدهم ويحقق لهم مقدار أكبر من الرضى عن ذواتهم ومقدار إنتاجيتهم في مجتمعاتهم، واحدة من أهم الأسس التي أشار إليها الدكتور الرمضان في حديثة مبينا أن "يجب تفعيل الرابط بين سن المراهقة والتكليف في البرامج الإرشادية التي تتبناها المؤسسات الاجتماعية ومنظمات الارشاد النفسي والأسري، كما يجب أن تكون من أولوياتها أيضا، حل المشكلات التي قد تعيق تحقيق الذات، كفقدان الثقة بالنفس، الانطواء، الخجل".
ويوضح الرمضان أن "النظام القيمي الذي أسسه الاسلام يكفي بأن يستند إليه الفرد في تحقيق أهدافه وطموحاته وتطلعاته للمستقبل وفق قواعد رصينة ذات نتائج عالية الدقة بالانجاز، وإذا ماوصلت المراهق بطريقة صحيحة ستكون هوية واضحة للشعور بانسانيته أولا واثبات ذاته بطريقة تنفعه وتنفع المجتمع.
العلاج الجمعي
هناك انعكاسات ايجابية شخصها المرشدين والمختصين بالعلاج النفسي، التي تعود على المسترشد أثناء تفاعله مع الجماعة العلاجية، يذكر الرمضان منها "الجماعة تعطي الفرد فرصة لتعلم أشكال جديدة من السلوك تيسر له التوافق مع واقع حياته، وتعمل الجماعة على تنمية بعض المعايير التي يتطلبها التفاعل داخل الجماعة إذ يتعلم متى يتحدث ومتى يصمت ليستمع للآخرين وهو ما يعرف بتبادلية الحديث.
كما تتيح الجماعة للفرد أن يقيم نفسه ويصحح أخطاءه، حتى يحافظ على مكانه داخلها وجاذبيته لدى أفرادها، وتمكنه من تحسين أداءه والاستبصار بإمكانياته ومزاياه لكي تنطلق معبرة عن نفسها مما يشعره بالقيمة والاعتبار".
ويضيف الدكتور الرمضان إلى أن "هناك من طرائق ممكن اتخاذها مع من يفتقرون إلى الجرأة في التعامل مع الآخرين أو يجدون صعوبة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم وفي طور المراهقة، والتدريب واحد منها، إذ نجد هذا الشكل العلاجي مفيد ويمكن أن نستخدمه مع حالات المراهقين الذين يعانون من الصعوبات السابقة عن طريق تقوية ذواتهم وتحسين كفاءة التعامل مع أطراف التفاعل في واقع حياتهم وتؤكد له حقه في التعبير عن نفسه أمام الآخرين دون عداء أو عدوان ودون تجاوز للأعراف والقيم والأخلاقيات".
ومما لا يخفى على أحد أن وسائل التواصل الاجتماعي والتطور الهائل الذي يشهده العالم في ظل الثورة التكنولوجيّة يفترضان تعاطيا مختلفا مع المراهق الذي يكون ابن عصره بكل متغيراته المتسارعة، إذ انها تصنع تحديات متجددة لإيجاد سبل لالتقاط ما يمكن من هذا العالم وتقديمه بحلل تجذب المراهقين، ولا تشعره باغترابه عنهم، أو بعده عن عالمهم.
فمراهق اليوم مختلف عن مراهق الأمس، مداركه أكثر اتساعا، معلوماته أكثر غزارة، مرونته أكبر وأيسر على التغير ومواكبة التجديد، مفرداته متجددة، ومعجمه مفتوح على التلقف والتطويع، لذلك فمن الضرورة معايشة هذه المتغيّرات حين السعي لمقاربتها ومعالجتها من قبل المختصين.
اضافةتعليق
التعليقات