تمر علينا في هذا العالمِ لوحاتٌ ولوحات، منها ما يزهو بأريجِ السنابلِ وغناءِ البلابل، ومنها ما تكسوه العتمةُ والآه والوحشة، ومع تقلُّبِ الأحوال تتقلَّبُ طقوسُ الواحدِ منّا، بين سجدةِ شكرٍ ودمعةِ استغاثة، بين ضحكاتِ مُرَفَّهٍ وعانٍ لا تنفكُّ تَسمعُ لُهاثَه!.
أما أنا.. فحين توغِلُ الآلامُ أشباحَها في صدري حتى يَصيحَ كفى! أحمِلُ نفسي ببقاياها إلى المقبرة، أجدُ سلوايَ في الحديثِ مع مَن رحلوا مِن أحبتي، أشكو.. أُخَبُّر.. وأسألُهم الدعاء، تَهونُ الشدائد حين أتذكَّر قُربَ النهاية.
رغم ذلك كنتُ أتصوَّرُ النزولَ في القبرِ كابوساً مرعباً، مجرد تخيُّل توسدي التراب كان يُشعرُني برغبةٍ في البكاء، إلى أن نزلتُ هناك وتوسدتّٰ ترابَ القبر!.
السلامُ على أهلِ لا إله إلا الله
في ذلك اليوم، لم تَكفِني زيارةُ المقبرة، احتجتُ إلى النزول في أحد القبورِ المحفورة المجهَّزة لدفن الموتى، سِرنا بمركبتنا في المقبرة حتى اختفت القبور ذوات الشواهد عن أنظارِنا، وصلنا إلى أرضٍ ترابية فيها بضعةُ قبورٍ بين مبنية ومحفورة، أوقفنا المركبة، هيّا انزلي!.
أين القبر المحفور؟ لا أراه، كنتُ أكرر السؤالَ الذي خبّأ بين أضلُعِهِ رجاءً بأن يأتي معي أحدٌ إلى مكان القبر، ولمّا يئِستُ من الجواب نزلتُ لوحدي، سِرتُ مسيرَ المودِّعين حتى وقفتُ على شفيرِ قبرٍ محفور، هل حقاً سأنزلُ هنا؟.
كأنَّ القبرَ عميقٌ بعضَ الشيء؟
إن بقيتُ من الأحياء كيف سأخرج؟
لكن كان لابدَّ من النزول! ترجَّلي أيتها الأنا المتعاليةُ في داخلي، تبعثري يا هموميَ التي أنقضت ظهري، ها هنا مَحَطُّ رِحالِنا.. هنا منزلُ مَرساتِنا، أثنيتُ ركبَتَيّ.. وضعتُ كفّي على شفير القبر .."بسم الله الرحمن الرحيم".. ونزلت.
تصوَّرتُ أنني إذا نزلتُ القبرَ سأصرخ وأبكي مناديةً: أخرِجوني أخرِجوني! لكنني كنتُ هادئة، ولم ينتَهِ الأمرُ هنا، بل كان لابد من التمدد على الأرضِ بطولِ القبر! أدرتُ عيني إلى القبور المبنية لأسأل أهلَها عن القبلة، بلى اسألوا الأمواتَ عن جهةِ القبلة، فالميِّتُ حين يُدفَن يوضعُ خدُّه الأيمنُ على التراب بحيث يُصبح وجهُه ومُقدَّمُ بدنِه ناحيةَ القبلة، وبعد أن عرفتُ جهةَ القبلةِ توسدتُّ التراب.
مناجاة
بمجردِّ أن وضعتُ رأسي على الأرض شعرتُ براحةٍ غريبة، هدوءٌ.. سكون، إلهي بعيداً عن صخبِ الدنيا وضجيجِها فقط أنا وأنتَ هنا، وبدأَت غيمةُ الدموعِ تَهطِل..
إلهي أنتَ الربُّ الحكيم الذي لا يَختارُ لعبادِه إلا ما تقتضيه مصلحَتُهم..
إلهي إن اخترتَ لي البقاءَ في الدنيا فأعِنّي ودُلّني فأنا ضعيفة..
وإن اخترتَ لي الموت فخُذ روحي!
إلهي مهما كان اختيارُك لي فلا تتركني، فإنك إن تركتني ضِعت.
صرتُ أنظر إلى حائط التراب أمامي وأتخيَّلُ العقاربَ والثعابينَ تَخرُج منه لتمزِّقَ جسدي! تخيَّلتُ الليلَ وقد خيَّم وأنا لوحدي وقد جاءني نورٌ حلَّ عند رأسي هو نورُ الولايةِ للنبي وآله والبراءةِ من أعدائهم، ورُسِمَ أمامي مشهدٌ مخيف..
ماذا إن جاءني ملك العذاب؟ وأنا أعلم بما جنَتهُ يداي؟
اشتدَّ بكائي..
إلهي إن جاءني ملك العذاب لِيُنزِل علَيّ سخَطَك فلن أقولَ شيئاً سوى: السلامُ عليكَ يا أبا عبدِالله! ألا تَشفعُ لي دموعي التي سالت حزناً عليك سيدي؟ أتترك أَمَةً شرَّفْتَها بخدمتك؟!
جلست ورفعتُ كفيّ أزور سيدي ومولاي معتمَدي ورجائي أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، وأثناء زيارتي سمعتُ صوتَ بكاء!.
عِش حياةَ مُوَدِّع
رفعتُ رأسي وإذ به زوجي، مدَّ يده إلي باكياً: قومي لنعودَ إلى المنزِل..
لا! لستُ مستعدةً للرجوع إلى الدنيا، أحتاج إلى المزيد من المراجعة والمحاسبة والترتيب. نهضت ورحتُ أحلّق ببصري بين هاتيك القبور المحفورة ولمّا أزل في الحفرة، ستمتلئ هذه الحفر بجثاميننا، فقد أُدفن في هذا القبر غداً، وقد تُدفن تلك العزيزة التي آذتني في ذلك القبر، وقد يُدفن ذاك الذي جرحتُه بكلماتي في ذلك القبر، لماذا أجعله يقضي آخرَ ساعاتِهِ كسيرَ القلبِ بسببي؟
ما فائدةٌ الجلوس على قبره لاحقاً وبثُّ الاعتذارات؟
وتلك التي آلمتني.. لِمْ عسايَ ألوِّثُ قلبي بكدورات اللوم والعتب والضغينة وفي آخر السكة سننام هنا؟
لماذا أُرهق روحي؟
فلأُسامح ولْأَعفُ عنها عسى الله أن يسامحني ويعفو عن زلّاتي بل أنا أشركُها في صالحِ أعمالي.
وجلستُ ثانيةً في الحفرة لكن هذه المرة جلسةَ العازمِ على التغيير، لن أخرج حتى أعقد نيةً جديدةً أسير بنورِها بقيةَ عمري، نويتٰ وعزمتُ على أن أعيشَ حياةَ الموَدِّعين الراحلين في إثر من رحلوا، فالأمر لا يقتصر على الصلاة، حياةُ المودّع لا تعني أن نعيشَ بحزنٍ وكآبة! بل نتقنُ ما يَصدُر عنّا، مشاعري.. حُبّي.. حناني سأمنحهُا لمن أُحب بصدق وبقوة كما لو كانت آخرَ لحظاتُ عمري، سأتحدثُ بحذر فقد تكون هده آخرَ حروفي في هذا العالم، سأعمل وأقدّم بإخلاصٍ وجودة فقد لا أوفَّقُ لتكراره مجدداً، أنا على يقينٍ يا إلهي أن البدء في هذه النية صعب والاستمرار أصعب، لكنَّ ثقتي بك وتوّكلي عليك، ابتسمتُ وقُمتُ قيامَ المنتصِر، وخرجتُ من القبر بمساعدةِ زوجي.
في الحقيقة، منذ دخولي القبر وإلى هذا اليوم الذي سطَّرتُ فيه ما جرى وأنا أحاولُ أن أعيش حياةَ المودّعين، رغم قلة سعيي لكنني رأيتُ وأرى جمالَ الأثر، عيشوا حياةَ المودّعين تعيشوا بسعادةٍ وهناء وسلام.
اضافةتعليق
التعليقات
العراق2018-10-08
هل تستقبلون مشاركات أدبية تنشروها في مجلتكم
؟