في خضم صعوبات الحياة آنذاك وعدم وجود الماكنة ومع أن كل شيء يعمل يدويا إلا إن الزهراء فاطمة (عليها السلام) لم تكتفِ بما هيّأ لها بيت الوحي من معارف وعلوم، ولم تقتصر على الاستنارة العلمية التي كانت تُهيئّها لها شموس العلم والمعرفة المحيطة بها من كلّ جانب.
لقد كانت تحاول في لقاءاتها مع أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعلها باب مدينة علم النبي أن تكتسبَ من العلوم ما استطاعت، كما كانت ترسل ولديها الحسن والحسين إلى مجلس الرسول (صلى الله عليه وآله) بشكل مستمر ثم تستنطقهما بعد العودة إليها، وهكذا كانت تحرص على طلب العلم كما كانت تحرص على تربية ولديها تربيةً فُضلى، ولقد كانت تبذل ما تكتسبه من العلوم لسائر نساء المسلمين بالرغم من كثرة واجباتها البيتية.
إنّ هذا الجهد المتواصل لها في طلب العلم ونشره قد جعلها من كبريات رواة الحديث ومن حملة السُنّة المطهرة، حتى أصبح كتابها الكبير الذي كانت تعتزّ به أشدّ الاعتزاز يُعرف باسم «مصحف فاطمة» وانتقل إلى أبنائها الأئمة المعصومين يتوارثونه كابراً عن كابر، فها هي تهتم بالعلم وتنقل الأحاديث ويروون عنها فقد قال أبو محمّد العسكريّ (عليه السلام) حضرت امرأة عند الصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك فثنَّت فأجابت، ثمّ ثلَّثت إلى أن عشّرت، فأجابت، ثمّ خجلت من الكثرة فقالت لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة: هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكتري يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار، يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: اكتريت أنا لكلّ مسألة بأكثر من مِلء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليَّ، سمعت أبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلَّة من نور، ثمّ ينادي منادي ربّنا عزّوجلّ: أيُّها الكافلون لأيتام آل محمّد (صلى الله عليه وآله) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الّذين هم أئمَّتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الّذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كلّ واحد من اُولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتّى إنّ فيهم. يعني في الأيتام. من يخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم، ثمّ إنّ الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين لأيتام حتّى تتمّوا لهم خلعهم وتضعّفوها لهم، فيتمّ لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم، ثمّ إنّ الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتّى تتمّوا لهم خلعهم وتضعّفوها لهم، فيتمّ لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممّن خلع علي من يليهم(1)
ويكفي دليلاً على ذلك وعلى سموّها فكراً وكمالها علماً ما جادت به قريحتها من خطبتين ألقتهما بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إحداهما بحضور كبار الصحابة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) والأُخرى في بيتها، وقد تضمّنتا صوراً رائعةً من عمق فكرها وأصالته واتّساع ثقافتها وقوّة منطقها وصدق نبوءاتها فيما ستنتهي إليه الأُمّة بعد انحراف القيادة، هذا فضلاً عن رفعة أدبها وعظيم جهادها في ذات الله وفي سبيل الحقّ تعالى.
لقد كانت الزهراء(عليها السلام) من أهل بيت اتقوا الله وعلّمهم الله كما صرح بذلك الذكر الحكيم وهكذا فطمها الله بالعلم فسمّيت فاطمة، وانقطعت عن النظير فسمّيت بالبتول.
اضافةتعليق
التعليقات