هاهو ذا يمشي بمفردهِ من زقاقٍ إلى آخر، في عتمة الليل التي كادت أن تُخفي ظلّهُ لولا تلك المصابيح الخافتة، يحدّقُ في تلك التفاصيل التي لم تكن تهمّه، لون الرصيف، زخرفة الجدار الباهتة، علبة فارغة.. لعلّ ذاكرته تغفل لبضع دقائق عن أبيه ومقاومته سكاكين المرض التي اجتاحت جسده النحيل.
جلس على إحدى تلك الكراسي الموجودة وقد أخذت أفكاره السوداوية بالسيطرة عليه شيئاً فشيئاً حتى انهمرت دموعه بحرقة وبدأ يتمتم بكلماتٍ بالكاد يسمعها هو: ألا يكفيني فراق أمّي الذي مزّق أعماقي.. ألا يكفيني، وهاهو الآن أبي يصارع المرض وأنا بلا حولٍ ولا قوة.
لا اريد أن أجرب شعور الوحدة مرةً أخرى.
أخذ النسيم الباردُ يلاطفُ وجهه المنهك فقام بمسح دموعه وبعد تنهيدةٍ طويلة أخذ يلتفتُ يميناً وشمالاً كي يطمئن بأنّه لم يلْفت أنظار أحد، لكنّ الغريب أنّهُ لم يُلاحظ من كان بجواره جالسٌ يستمعُ إلى شكواه ويبكي معه، كيف يُعقَلُ أنّهُ لم يلاحظ وجودهُ وقد كان يحدّق في أدق التفاصيل!.
ها قد رجع إلى بيتهِ المعزول عن بيوت المنطقة الأخرى وهو يفتح الباب ببطئ وإذا بأبيه جالسٌ ينتظره على ذلك الكرسي كدأْبه، فقال لهُ بصوتٍ يملئه الحرص: لقد تأخرت يا ولدي، لا تقلقني هكذا مرةً أخرى.
فأجابه بإبتسامةٍ خفيفة: لا تخف يا أبي كنتُ أحضر لك العلاج من الصيدلية عند عودتي من العمل، هيا عليك الآن اخذُ الدواء والنومُ بعدها لأن الوقتَ قدْ تأخر.
بعدَ يومٍ شاق من العمل كصانع ألقى بثقلِ جسدِهِ على الكرسي وأخذ يسحَبُ شهيقهُ بعمقٍ ومازالَ يفكرُ بكيفية الحصولِ على تكاليف العملية لإزالة ذلك الورم الخبيث عن أبيه.
أخذَ ببعضِ الأوراق كي يدوّنَ بها أفكاره ومن يمكن مساعدته علّهُ يصِلُ إلى حلٍّ ما، وبعد أن يأسَ من التفكير داعب النوم عينيه المنهَكتين وهو جالسُ في مكانه..
في العالم الآخر كانت واقفةً أمامهُ، تحدّق في عينيه وفي وجهها ابتسامةُ يملؤها الحنان كما كانت تبتسمُ قبلاً.
_ أماه.. لماذا تركتني.. أبي الآن مريض وأنا لا أستطيعُ فعلَ شيء، لا أريدُه أن يرحل، لا أريدُ أن أبقى وحيداً..
لم تنبِس ببنتِ شفه واقتربت ببطئ لتُسلّمهُ ورقةً صغيرة مكتوبٌ بها بضعُ كلمات..
استيقظ مذعوراً، وإذا بالورقة التي كانت أمامهُ مكتوبُ عليها بخطٍ عريض: "يا صاحب الزمان أدركني".
بُهِتَ وجهه أكثر مما هو باهت، وفغر فمه وهو يستعيد تلك اللحظات في صغره كلّما تراءى الحزن على وجهِ والدته تبدأ بترديد هذه الكلمات..
وسرعان ما قرعَتِ الساعةُ معلنةً تمام الرابعة، نهض بسرعةٍ وأخذ يرتدي معطفهُ متناولاً تلك الورقة.
أقفل الباب بهدوء وأخذ يجري مسرعاً إلى ذلك المسجد الذي كان يصطحبه معه في صغره.
وما إن وطأت قدماه باب المسجد حتى تناهى إلى سمعه صوت الأذان، أخذ يتوضأ وهو في منتهى الشوق لأداءِ صلاته مع امام زمانه..
وابتدأ يصلي جهراً بصوتٍ جميل يملؤه الخشوع والإطمئنان. وما إن فرغ من صلاته أراد أن يبدأ بالتوسل لإمامه لمساعدة أبيه لكن الحروف قد خذلته وسرعان ما بللت الدموع كفيه.
لم يمضِ طويلاً حتى شعر بيدٍ لامسَت كتِفَه، أخذ يمسح دموعه ملتفتاً للخلف وإذا بشيخ المسجد بقسمات وجهه المُريحة قائلاً له: لقد كنتُ أنتظرك..
أجابه مستغرباً: تنتظرني أنا؟؟ لماذا
_ أجل لقد حلمتُ بك منذ يومين وأنت تبكي في نفس المكان الذي أنتَ جالسٌ فيه الآن، وكان بجوارك شخصٌ يدعو لك ويواسيك ثم اتجه نحوي يوصيني بك خيرا.
أجهش الولَدُ بالبكاء حتى كاد لا يلتقطُ أنفاسه..
_ أخبرني يا بني لما تبكي؟
أجابه والدموع لا تزال تنهمر: لقد كنتُ أبكي على أبي المريض يا شيخ أمّا الآن فأبكي على تقصيري وخذلانِ امام زماني.
وبعد ساعاتٍ قليلة رجِعَ إلى بيته منادياً أباه ووجهه يعبر عن سعادته وحزنه في آنٍ واحد. بشّر والده بحصوله على تكاليف عمليته من ذلك الشيخ.
وقبل أن يهمّ بالخروج مع أبيه للمشفى أخرج المفاتيح من جيبه وإذا بهِ يسحبُ تلكَ الورقة، فابتسم وضمها إلى قلبه قائلاً: لم أكن وحيداً قط..
اضافةتعليق
التعليقات