بدت الشمس متوهجة أكثر من ذي قبل وكأنها قد دخلت في تحدٍ حام مع الطبيعة، تبعث بلهيب أشعتها الحيوية والطاقة، كأنها تمرر بأناملها أخاديد الخليقة الغضة النضرة حتى تكاد تسمع لهيث الزهور وهي تتلظى عطشا. لقد كان جالسا في الجزرة الوسطية في منتصف الشارع يلوذ خلف جدار (كون كريتي) ليستظل به من أشعة الشمس, تارة يمسح جبينه من العرق المتفصد في جبهته وتارة يغسل وجهه الذي لفحته حرارة الشمس برشة ماء خفيفة.
الشاب أمير يوسف لم يتجاوز عمره التاسعة عشر كان يملأ قناني من مادة (الكاز) ليبيعها على المارة في الشارع من أصحاب الدراجات النارية أو (الستوتات) والسيارات.
(بشرى حياة) رصدت أصحاب الأعمال الحرة والتقت بهم لتنقل طبيعة عملهم وصبرهم لمواصلة صيامهم.
يعترف أمير قائلاً: هذه السنة الأولى التي أصوم بها, ففي السابق لم اكترث للالتزام بالواجب الديني, لكن بعد دخولي لمحو الأمية أصبحت أهتم لهذه الأمر والفضل يعود لأستاذي.
وأضاف: أنا أعمل بائع متجول منذ ثلاث سنوات وهذا عملي الوحيد الذي اقتات منه قوت يومي, وبالرغم أنه يخلو من المجهود العضلي إلا أن حرارة الجو تجعلني أشعر بالدوار والعطش.
ختم حديثه: بأنه سيواصل صيامه ويلتزم بصلاته حتى ما بعد رمضان ويكفي ما فاته سابقا.
رحلة صبر في حب الله
الكثير من العوائل العراقية التي تنتمي إلى شريحة السكان الأكثر فقراً تعيش ظروفاً قاسية.
مشاهد كثيرة رصدناها لهذه الفئة من الناس حيث يعملون أعمال تكاد تكون شاقة طوال السنة ليسدوا قوت يومهم.
وما يزيد الأمر عناءً ومشقة حينما تقسوا عليهم الطبيعة ليتزامن الشهر الفضيل مع فصل الصيف وهم يزاولون أعمالهم تلك, إذ يواصلوا صيامهم دون ملل أو كلل في رحلة صبر في حب الله.
كفاح مستمر
(شسوي لعد هذا شغلي وماعندي غيره) أول جملة استهل بها المواطن عقيل كاظم كلامه.
مضيفا: إنه اعتاد على الأمر فهو يعمل نجاراً في المباني السكنية منذ الصغر بعد تركه للمدرسة.
وتابع قائلا: حاولت جاهدا توفير عمل أفضل لكن دون جدوى, فأنا لا أجيد غير العمل في هذا المجال, ويبدو أني سأبقى في كفاح مستمر من أجل لقمة العيش, وبالرغم من التعب الشديد إلا إني مازلت أواصل صيامي طوال اليوم, وسأكمل صيام شهر رمضان بفضل الله تعالى لمنحه لي الصبر والتحمل.
ومن جهته حدثنا شاكر كريم عن طبيعة عمله القاسية فهو يعمل بأعمال البناء منذ أن كان شابا يافعا حتى إن بنيته اعتادت على حمل أكياس الاسمنت و(الطابوق).
مشيرا إلى أن عمله يعد وكأنه الجهاد في شهر رمضان حيث ينهكهم العطش وحرارة الجو, كما أن بعض العاملين معه لم يكن بمقدورهم التحمل فيعدلوا عن الصيام وهذا الأمر يحزنه.
وأضاف قائلاً: قد عمد صاحب العمل هذه السنة إلى أن نعمل باكرا مع أول خيوط الفجر حتى نعود إلى البيت بعد اذان الظهر ليتسنى لنا مواصلة صيامنا بتعب أقل.
ويروي لنا أبا رشا/ 41سنة رحلة عمله التي عمل بها منذ أن كان في الخامسة عشر من عمره قائلاً: أعمل عتال (حمال) منذ سنين خلت حتى أصبحت معروفا في السوق.
ولكون عملي متعب جدا اتخذت خطة عمل خاصة بي وهي تقسيم ما أجنيه كل يوم من المال طوال الشهور الماضية وادخرها, حتى يتسنى لي أن أتوقف عن العمل في شهر رمضان الكريم وأتابع صيامي وأيضا أنجز أعمال الشهر من الواجبات الدينية الأخرى.
وأضاف: في الحقيقة أنا سعيد كوني أعطيت لنفسي هذه الإجازة من كل عام في هذا الشهر الفضيل, أسأل الباري عز وجل أن يعيده علينا باليمن والبركة والسلامة.
وللمجاهدين نصيب
تتواصل الأعمال الحرة للرجال والنساء في الشهر الفضيل لتغدق عليهم رحمة الباري في تلك الأيام المباركة, كما كان للمجاهدين نصيب بتلك الأعمال المضنية إذ إن عملهم لا يقاس بغيره, بهذا الجانب حدثنا أبو مجيد/ مقاتل في الشرطة الاتحادية: بالنسبة لنا مجاهدي الحشد, وكل المقاتلين, نعمل عملا لا يقاس بأي عمل حيث نواصل صيامنا بين قتل وانفجار وجهاد وحمل درع وسلاح وحرارة الجو, وحينما يرفع صوت الأذان نجلس على التراب مغبرين لتناول وجبة الإفطار, أسأل الله أن يتم علينا صيامنا ونكون في ليلة العيد بين ذوينا.
الصيام مشروع تربوي
وشاركنا الشيخ نزار التميمي حول فريضة الصيام ومواصلة العمل قائلا: تعد فريضة الصوم من إحدى الدعائم التي بني عليها الإسلام لأنـه عبـــادة لتهـذيــب النفـــــوس والرجوع إلى الله تبارك وتعالى.
وأضاف: من هنا نرى علمائنا علماء الفقه قد اهتموا اشد الاهتمام وبذلوا قصارى جهودهم لوضع الأحكام التشريعية التي تجعل المكلف مبرئا لذمته أمام الله تبارك وتعالى، وبالتالي فالصوم هو مشروع تربوي أخلاقي يهدف إلى بناء الإنسان وصلاحه وقوته, ويكفي أن الصيام يقوي من إرادة الانسان ويعلمه على مواجهة التحديات والمصاعب.
مضافا إلى أهمية الشعور بمعاناة الأخرين, لاسيما لدى بعض الطبقات الاجتماعية, ممن لا يشعرون بمعاناة الفقراء وآلامهم فالصوم حتما كفعل وجداني سيحرك لديهم المشاعر الإنسانية تجاه إخوانهم في الدين والإنسانية.
ويضاف إلى ذلك كله هو أن الصوم يقع في عين الله ورضاه كما في الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به", بمعنى أن وراء فعل الصوم الأجر والثواب الآخروي أي الذي لا يمكن وصفه من حيث العطاء والأجر الذي وعد الله عباده عليه، فنحن كمسلمين يفترض بنا أننا نؤمن بالغيب وبما أعده الله تعالى لعباده من الأجر والثواب العظيم الذي يعد من أهم المحفزات والدوافع لأداء مثل هذه الفريضة المقدسة.
وتابع التميمي: وبالنسبة لبعض الشرائح الاجتماعية من الكسبة أو ذوي الدخل المحدود ممن يزامن عملهم في شهر رمضان من حيث إن توقفوا عن العمل أصابهم الضرر, فهؤلاء قد ناقش الفقهاء موضوعهم وخلاصة ما قالوه هو الأهمية والأولوية هي لعل الصوم قدر الإمكان لموقعه في الإسلام كما تبين سالفا, لكن إذا كان الفرد مضطرا للعمل في هذا الشهر لمزاولة العمل ويضره الصوم جسديا وصحيا في الوقت نفسه, قال الفقهاء ممكن أن يتناول مقدار الحاجة من الشراب أو الطعام ليعينه على مواجهة الحر والاستمرار بالصيام, لكن عليه أن يقضي هذا اليوم أو الأيام فيما بعد شهر رمضان في أي فرصة أخرى يتمكن من الصيام من دون أن يتناول شي من ذلك.
اضافةتعليق
التعليقات