كان لبريق ضوئه اثر في نفوس محبيه, لم يكن مجرد قنديل يضيء ليستدل به الناس وجهتهم, اذ كان ينير لهم قارعة الطريق لبيت الله وهم يرتجلون بخطاهم إليه, كل شيء حولهم آنذاك ينذر ببساطة الحياة وجمال عفويتها, حتى هو..
اذ يجمعهم على حب البارئ في مكان يخلو منه رجس الشيطان, فيخلد صور من ذهب قد خفت بريقها في دهاليز الماضي, وهي تفيض شوق الحنين لمحبيها..
انه "فانوس رمضان"...
كان فانوس رمضان منذ عقود مضت أشبه بقنديل من النور لدى المسلمين, وبحسب ما يذكره تاريخ أجدادنا بأنهم اعتمدوا عليه نتيجة تباعد الأحياء عن المسجد، فبعد الصوت من المنابر للتسحير يستعاض عنه بضوء الفانوس، إذ يعلق بأعالي المآذن مضاء منذ دخول صلاة المغرب وقت الإفطار ويبقى حتى قبيل أذان الفجر عند الإمساك، فإذا ما أنزل الفانوس من المآذن فإنّ الصائمين يعرفون أن الصيام ليوم رمضاني جديد قد بدأ.
وبعد سنين مضت بدء شيوع استخدامه للاحتفال بشهر رمضان فكان في البداية في مصر الفاطمية, وبعد انتقال الحياة إلى طور التجدد استخدمته الشعوب كطقوس رمضانية تدل على الابتهاج والاحتفال بهذا الشهر الكريم، والتي ما عدنا نراها في بعض الدول والبعض الآخر بحلة جديدة وليس بهدفها السامي بل للتباهي, اذ يختاره مقتنيه من أجود أنواع الفضة أو النحاس أما يكون مزركش بألاحجار الكريمة او النقوش الفريدة, لتجذب عيون الرائي وتشد من انتباهه, متناسيا بأنه يرمز لحلول شهر الطاعة والغفران وبأنه بقيمته المعنوية الهادفة لا المادية الزائفة.
فيكون نقيضا لما كان عليه في الماضي البعيد, ببساطة جذوته التي ينبثق نورها من فتيلته الصغيرة المنتهية في اناء الزيت في قعره, فيكمن سر جماله بتصميمه البدائي وفائدته العميقة, بين من يتجه صوب المسجد للصلاة أو الاستدلال بضوئه لمعرفة وقت الإمساك ليبدأ نهارا جديدا لإتمام صيامه.
صور غير مرادفة تماما لما عليه قناديل اليوم, اذ تتغير شعلة الضوء بمصابيح ملونة ومختلفة التصاميم, وهي لا تحمل بأضوائها الملونة أي عبرة من الماضي الجميل, فقد تخلى الكثير عن فريضة الصيام والصلاة, فأصبح فانوس رمضان بالنسبة إليهم زينة للتباهي لا للفائدة او الاحتفال بحلول الشهر الكريم لإتمام الواجب الذي شرعه الإسلام عليهم...
وبهذه الحقيقة المريرة ينوء فانوس رمضان لتأريخه العريق لما اصابه من رتوش الحاضر, فكيف لحياة بهذه البساطة والسلاسة ان تفقد بريقها وتتلاشى وتستبدل بإفتراضيات بعيدة وغير ملموسة كالصور والفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي... كم نتمنى أن تعود تلك الحياة العفوية ليومنا هذا ببساطتها وعفويتها أو تلازمنا حكمتها وعبرتها, مع تقدم حضاراتنا من اجل أن يبقى تاريخ أجدادنا منحوتا في الوجدان.
اضافةتعليق
التعليقات