زيارة الأربعين مناسبة خاصة استثنائية ليس فقط بسبب القدسية العظيمة لهذه الزيارة بل هناك سبب آخر متمثل بالحشود الكبيرة التي تأتي من كل بقاع الأرض لزيارة الامام الحسين (عليه السلام)، وهذا الحماس الكبير الذي يجتاح نفوس الزائرين جاء ضمن الانفتاح الكبير الذي حصل عليه الشيعة بعد أن كانوا محرومين منه قبل عام ۲۰۰۳ مـ، فقد كانوا يعيشون في ضنك وانغلاق تام وظلم واضطهاد، وهذا الدافع والحماس لم يخبو بل يتطور كل سنة.
زيارة الأربعين بهذه الطاقة الكبيرة تفرض علينا دراسة هذه الظاهرة بشكل واسع من أجل تحقيق النهضة الشاملة، أي: النهضة الاجتماعية، السياسية، الاعلامية، الاقتصادية ... الخ .
وهذا الواقع الجديد واستحقاقات زيارة الأربعين المتصاعدة يفرض تحديات حقيقية أمام النخب من رجال الدين والباحثين والحوزات الدينية والجامعات والمراكز دراسات والمؤسسات الثقافية. وذلك من خلال وقفة عميقة مشتركة عبر المؤتمرات والندوات ومراكز البحوث والدراسات للوصول إلى الكيفية الصحيحة لاستثمارها في سبيل تحقيق التقدم الاجتماعي.
تعزيز روح الجماعة
اليوم العالم يعيش تطوراً تكنولوجيا كبيراً ووصل الى القمة بما يسمى بالذكاء الاصطناعي واعتماد المجتمعات الكثيف على وسائل التواصل الاجتماعي مما جعلها تعيش حالة من الاختلال الثقافي والسلوكي وهذا أدى إلى انعزال اجتماعي وأصاب الكثير من الأفراد حالة من الاضطراب النفسي.
هذا الأمر جعل بعض الدول تولي المزيد من الاهتمام البالغ بإقامة المهرجانات والاحتفالات والتجمعات بهدف إخراج مجتمعاتهم من الحالة الفردية إلى الحالة الجمعية من أجل تعزيز روح الجماعة، لأن المجتمع الذي لا يوجد فيه تفاعل اجتماعي أو تواصل يكون مجتمعاً ميتاً، فالانعزال يؤدي إلى الكآبة والوحدة المقيتة. ومن هنا علينا أن نعي ونعرف نعمة الزيارات الدينية وخصوصاً زيارة الامام الحسين (عليه السلام)، فهذا التموج الجمعي الكبير التلقائي يدفع الناس لإظهار القيم الإنسانية النبيلة كالعطاء والتكافل والكرم التي تسهم في تعزيز الروح الجمعية وتكسر حواجز الانعزال والسلبية، فلابد أن ندرس هذه الحالة من أجل توطيد الثقافة المجتمعية والمشاركة الإنسانية التضامنية لترسيخ هذه القيم واستثمارها الشامل في الإصلاح الاجتماعي وتحقيق أمنيات الناس وتطلعاتهم.
وهذه المسؤولية تقع على عاتق النخب ولكن للأسف نلاحظ هناك البعض هذه النخب من يمارس عملية جلد الذات والمجتمع عن طريق التعاطي مع الظاهرة الايجابية بطريقة سلبية، بينما الصحيح والمفروض هو استثمار هذه الظواهر كقيمة فكرية وتفاعلية في طريق الإصلاح والتغيير والبناء المجتمعي الصالح.
الإستثمار الاقتصادي
زيارة الاربعين هي انفتاح شيعي على العالم، وهذا الانفتاح له تحديات وواحدة منها هو التحدي الاقتصادي، وزيارات أهل بيت رسول الله (عليهم السلام) بشكل عام والزيارات الحسينية بشكل خاص تعد من أهم الأسباب التي تحرك عجلة الإقتصاد العراقي.
ولكن هذا لا يكفي، لأنه يحتاج إلى تنظير عملي لبناء الإقتصاد العراقي من قبل المفكرين والمتخصصين والمسئولين وأن يتناسب مع الحركة الاقتصادية الكبيرة، وأن تكون الخطوة الأولى في ذلك هو محاربة الفساد والعمل على رفع العوائق الإستبدادية والبيروقراطية التي تعيق العملية الإقتصادية، فالكثير من المستثمرين في الاجتماع والعلوم السياسية يودون الإستثمار في تطوير الأماكن المقدسة لدوافع معنوية ودينية، وكذلك معرفتهم الجيدة بمنافع السياحة الدينية، ولكن العوائق البيروقراطية والقوانين المتصلبة تشكل مصدر أمام الاستثمارات، فرغم الإنفتاح الكبير الحاصل للعراق لكنه لم يتزامن معه بناء اقتصادي قوي يسهم في تطور مدن العراق خصوصاً المدن المقدسة كي تستوعب الزائرين. ولولا بعض الأشخاص الخيرين والهيئات والمواكب التي تقدم الخدمات والدعم اللوجستي لكانت هناك مشاكل يعاني منها الزائرين، في حين أن كل شيء متوفر للزائرين كل سنة، وهذا كله ببركة الامام الحسين (عليه السلام) الذي هو مصباح الهدى وسفينة النجاة.
الحكومة والدور المجتمعي
إن الحكومة تواجه مشاكل كبيرة بسبب صراع الكتل السياسية التي تتداخل بها عوامل داخلية واقليمية. لذلك على المؤسسات والأفراد العمل على تغيير القوانين الجامدة التي تمنع القطاع الخاص عبر التشجيع على تبني عقلية القطاع الخاص وتشغيل الأيدي العاملة في الصناعة والزراعة، وتحقيق التنمية في التعليم والصحة.
ويجب التأكيد في التعامل وفق نظرية الإدارة الحديثة التي تحث على ثقافة الترشيد فهناك هدر كبير في المال العام وأزمة المياه تعد أحد أسباب الهدر ويجب أن نتعلم ونعلم أولادنا على إدارة الموارد خصوصاً الموارد المائية والكهربائية والطبيعية. ويتحقق جزء من هذه الواجبات بسعينا نحن كحوزات، جامعات، مؤسسات، واعلاميين، ورجال دين، حين نعمل على التثقيف الشامل وهذا يحتاج إلى تغيير الأفكار القديمة واستبدالها بأفكار جديدة تتناسب مع الانفتاح الحاصل.
عِبرة وعَبرة
إن الامام الحسين (عليه السلام) عبرة وعبرة، فأحداث عاشوراء تحرك العواطف وتهتز لها أقسى القلوب وتتزلزل لها الأبدان فتترسخ في عمق الوجود الإنساني، فالبكاء في المجالس الحسينية هو علاج للمشاعر الإنسانية حيث تتكسر جدران القسوة وتتفتت التراكمات لتفتح الطريق أمام التغيير والإصلاح وبناء منظومة القيم النبيلة، فعندما يتعاطف ويتفاعل الشخص مع قضية أبي الفضل العباس (عليه السلام) يكون في محاولة لممارسة قيمة الوفاء وخصوصاً الوفاء للقضية الحسينية ومبادئها السامية، فكل القيم الإنسانية العظيمة موجودة في عاشوراء، لذلك فإنّ التكامل بين العبرة والعبرة في النهضة الحسينية هو من أجل بناء الإنسان وإصلاحه في امتداد مستمر إلى يوم القيامة.
اضافةتعليق
التعليقات