روحٌ واحدةٌ احتضنت أرواح السعداء واندمجت معها حتى صار النبض واحدًا.
تلتفّ حولها الأنبياء كقطراتٍ صغيرةٍ يترشّح منها الكمال، مما طفح من خاتم الأنبياء محمدٍ (صلوات الله عليهم أجمعين).
تلك أرواحٌ اتحدت وتفانت في الرسالة، وحققت التوحيد في التجرّد عن الأنا، والخروج من قوقعة الذات إلى رحاب السعادة.
عندئذٍ تحققت الأحديةُ الحقةُ باتصالها ببحر الكمال الواحد، وبلغوا ذروة السعادة؛ عالمٌ من السعادة قد يكون من الصعب شرحه، ولكن من السهل تذوّقه بالفطرة النقية، حين نندمج في صلاة الجماعة كقلبٍ واحدٍ يشارك النبي محمدًا والملائكةَ والمؤمنين في صلاةٍ قال عنها الباري عزّ وجلّ:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
عند الانضمام إلى تلك الصفوف، نتمكّن من استشعار سعادة التحليق مع السعداء، ونشعر بالسكينة والطمأنينة وراحةٍ لا نعرف تفسيرها.
وبإقامتنا الصلاة في أول وقتها، نستشعر مشاركة النبي (صلى الله عليه وآله) في صلاته، فقد قال (صلى الله عليه وآله):
«إذا زالت الشمس فُتِحت أبواب السماء وأبواب الجنان واستُحِبّ الدعاء، فطوبى لمن رُفع له عند ذلك عملٌ صالح.»
(المصدر: وسائل الشيعة، ج ٤، ص ١٦١–١٨٢)
تسعد الروح وتحلّق في سماء آل محمدٍ (عليهم السلام) وكمالاتهم، التي هي روح الصلاة والعبادات جميعًا.
وقد ورد في الأخبار:
«أراد الله تعالى أن لا يُنسيهم ذكرَ محمدٍ (صلى الله عليه وآله)، ففرض عليهم الصلاة، يذكرونه في كلّ يوم خمس مرّات، ينادون باسمه، وتعبّدوا بالصلاة وذكر الله لكي لا يغفلوا عنه فينسوه فيدرس ذكره.»
(علل الشرائع: ص ٣١٧)
نعم، أيها القارئ الكريم، سعادةُ الروح بعروجها إلى أرواح السعداء والتحاقها بثُلّة الصالحين، هي فناءُ أرواح المؤمنين في الله، في ذروة السلام والسعادة التامة الأبدية.
وهذا ما تحقق مع سيد الشهداء (عليه السلام)،
فقد ورد في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام):
«السلام عليك وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك.»
وكذلك ورد في زيارة أبي الفضل العباس (عليه السلام):
«فجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أرفعها منزلاً وأفضلها غرفًا.»
منزل العباس (عليه السلام) ليس قصرًا فحسب، ولا نعيمًا ماديًّا فقط، بل جمع الله له منازل المعصومين (عليهم السلام)، فهو حامل لواء الحسين (عليه السلام)، وحاجب باب سيد الشهداء، لأنه ذاب حبًّا في إمام زمانه، وبذل غاية المجهود لنصرته، فبلّغه الله أشرف محلّ المكرمين.
فمن أراد التوجّه إلى الحسين (عليه السلام) عليه أن يطرق باب كاشف الكرب، حيث إن روح العباس (عليه السلام) سبقت السعداء بإخلاصه وتفانيه في المواساة، فحلّ في فناء الحسين (عليه السلام)، واستحقّ أن ينال تلك المنزلة الرفيعة.
وحظي أبو الفضل (عليه السلام) بمقام السعادة الشاملة، فصار التوسل بالكفيل مفتاحًا للوصول إلى الهداية، والهداية تجسّدت بمصباحها وسفينة النجاة، ألا وهو الإمام الحسين (عليه السلام).
ولا توجد هدايةٌ قطعًا دون ولوج باب حامل اللواء، مفتاح مملكة السعداء، وإذن الدخول إلى قلعة السعادة الملكوتية، ومفتاحها بيد باب الحوائج أبي الفضل العباس (عليه السلام).
والدليل على ذلك ما نقرأه في زيارة العباس (عليه السلام):
«فرفع الله ذكرك في عليّين، وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.»
فـ«عليّون» هو أعلى مكانٍ في العرش، تسكنه أرواح الصالحين والملائكة المقرّبين، وهناك رفع الله ذكر العباس (عليه السلام)، وجعل الأرواح التي سكنت في عليّين تتقرّب إلى الله بذكر العباس (عليه السلام).
هذا مقام ناصر الحسين (عليه السلام)، فكيف بمقام الآخذ بثأر الحسين، الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؟
العباس (عليه السلام) حامل لواء الحسين (عليه السلام)، والإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وريث لواء الحسين (عليه السلام)، وكلاهما صلوات الله عليهما حاملان لهذا اللواء.
ولهذا السبب ورد ذكر الإمام المهدي في زيارة عاشوراء عدة مرات تلميحًا وتصريحًا. وكما هو معلوم، فإن زيارة عاشوراء فيها ضمانٌ للقبول وسرّ الهداية، فهي تصف الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه «ثار الله وابن ثاره»، وهو تلميحٌ واضحٌ إلى أن قضية ثأر الحسين (عليه السلام) أصبحت من اختصاص الباري عز وجل، وهي من حقوقه تعالى، وهو القاهر فوق عباده، لا يتنازل عن ثأر الحسين (عليه السلام) بأي شكلٍ من الأشكال.
قال الله تعالى في زيارة عاشوراء:
«السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره.»
ثم يُذكر الإمام المهدي تصريحًا بلقب المنصور، وهو من ألقابه (عليه السلام)، إذ يشير هذا اللقب إلى النصر المحتوم في هذه المسيرة الخالدة، وستكون السعادة من نصيب من ينصر الإمام المهدي ويطالب بثأر جدّه الحسين (عليه السلام).
وذلك في الفقرة من زيارة عاشوراء:
«فأسأل الله الذي أكرم مقامك وأكرمني بك أن يرزقني طلبَ ثارك مع إمامٍ منصورٍ من أهل بيت محمدٍ صلى الله عليه وآله.»
وأما في قوله:
«وأن يرزقني طلبَ ثاري مع إمام هدىً ظاهرٍ ناطقٍ بالحقّ منكم...»
فهو يبيّن أن ثأر الإمام الحسين (عليه السلام) هو ثأر المؤمنين فردًا فردًا، وكل واحدٍ من المؤمنين عليه أن يعتبر نفسه وليّ دم سيد الشهداء، ويستعدّ لهذه النصرة المؤيَّدة مسبقًا من قبل السماء.
وحين يظهر الحجة الموعود (عجّل الله فرجه)، ستتحقق سعادة أرواح المؤمنين، الأموات منهم والأحياء، حيث تجتمع الخلائق تحت لوائه، وتشرق شمس السعادة التي كانت ترمز إليها الشمس المادية، وتذكّر المؤمنين كل يوم بالوعد الإلهي.
كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير سورة الشمس:
«الشمس: رسول الله (صلى الله عليه وآله)، به أوضح الله عز وجل للناس دينهم،
والقمر إذا تلاها: ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) تلا رسول الله ونقّبه بالعلم.»






اضافةتعليق
التعليقات