ها انا اليوم ألملم شتات نفسي المبعثرة، استجمع بقايا شجاعتي، امشي بتؤدة نحو ذاك المكان الذي ضمّ ذكريات من رحلوا، وخلّفوا في سويداء قلوب احبتهم حزنا مقيما، لن يبرحوا عليه عاكفين.. حتى تزول لواعجهم، وحرقة كانت تنغّص عليهم عيشهم، من يدري لعل الزمن يتكفل بمحو الاثار، ويبلسم جراحاتهم المثخنة.
في الطريق اليهم اسعى لان اكون دافئة ورصينة ومتعاطفة، لم ادخل هذا المعترك من قبل، ولم اجرّب حظي لمواجهة كهذه، ها انا الان سمحت بسيل من الاسئلة تقترب من رأسي.. انها تبدو كسكاكين لو اطلقتها هكذا بلا معرفة بما ستتركه من انطباع عند من يسمعها، لكنني لن أسمح لنفسي بطرقها طالما انني لم ارتبها داخل رأسي، ماذا سيقولون عني لو اطلقتها دون مراعاة لمشاعر ام او اب او اخت او ابن؟! ياالهي كيف الخروج من هذا المأزق الذي اوقعت نفسي فيه؟! ولماذا أبديت اصرارا غبيا للذهاب معها لمقابلة ذوي الشهيد؟ لماذا حشرت انفي في ما لا يعنيني؟ واعلم كم انني افتقد لرباطة الجأش التي ينبغي التحلّي بها في هذه المواقف؟ يا الهي هل اتراجع الان ام اكمل المسير ياترى؟.
سمعتها تقول لي: لقد اوشكنا على الوصول يااختاه.
لقد أُسقط في يدي، وليس هناك متسع من الوقت للهروب او حتى الاختباء.. يا الهي كيف استطيع الصمود في محنة مفجعة الى حد التشظي؟! وماذا يبدو موقفي وانا اوجه اول رصاصة نحو قلب والدة مفجوعة بابنها؟ ياالهي؟! هل سأقول لها: كيف وصلكِ خبر استشهاد ولدك؟ وكيف تلقيتِ خبر ذبحه بدم بارد من يد داعشية آثمة؟ ام اقول لها: ماذا كانت ردة فعلك كأم وانت تستلمين رأس ولدك بلا جسد؟
انني الان في موقف لا أُحسد عليه.
طرقنا الباب، واذا بنا امام رجل كبير.. الوقار سمته والحزن سحنته والدمعة تترقرق في مآقيه.. رحبّ بنا بعد ان سألنا ان كنا نحن المعنيين باجراء اللقاء بشأن الشهيد، اجبناه بالايجاب.. دخلنا وليتنا لم ندخل.
طلب منا ابو الشهيد ان لا نلتقي زوجته، فهي قد اقامت في غرفة الشهيد في الطابق الثاني منذ ان وصل خبر استشهاده، لا تغادر غرفته منذ ذلك الوقت.. انها تنتظر عودته.. فهي لا تصدق انه استشهد، بل هي لا تعرف اننا لم نستلم سوى رأسه!.
هنا فقط توقف الزمن بنا.. دارت عيوننا في افق مكفهر، غصت افواهنا بالكلمات، حتى اننا لم نحسن استخدام اي كلمة تضامنية لهذا المشهد المأساوي الذي وضعنا انفسنا فيه.. ربّاه رحماك اي الهي.. ايّ قلب يتحمّل هول هذا المشهد؟! ايّ لوعةٍ انطوت عليها جوانح أب مهيض الجناح؟ وايّ فاجعةٍ كبيرة حلّت بهذا البيت الصغير؟!
انصرفنا بعد ان نالت عيوننا قسطا من البكاء، في حضرة والد رُزء من دنياه بأثنتين.
اضافةتعليق
التعليقات