في طريق العودة بعد نهاية الرحلة المدرسية، جلستُ في المقعد الامامي، انتظر متى يكتمل العدد، فما زال الكثير من الطلاب لم يأتوا بعد، بدا الانزعاج يظهر من السائق، واكثر من مرة كان (يزمّر) لكن من دون جدوى لا احد يسمع تزميره، او لا يرغبون بسماعه، ارتفاع درجات الحرارة، جعلني انا ايضا انزعج من التأخير، فتحت الحقيبة واخرجت قارورة الماء واعطيتها للسائق، لعلها تطفىء غضبه، مرت ساعة ونصف على موعد انطلاق الحافلة، جاؤوا اخيرا، جلسوا في مقاعدهم لا يملكون الرد على تأخيرهم، فكل ما يملكونه من الجواب، لم نشعر بالوقت، تحرك السائق من المدينة متجهين نحو مدينة اخرى، لا تقل جمالا او تراثا عن هذه المدينة.
في منتصف الطريق وقف معلم التاريخ وبيده مجموعة من الصور قائلا: رحلتنا الأخيرة في مدينة بابل التراثية لذلك نطلب منكم عدم العبث في محتويات المدينة ورمي الاوساخ لأنها تراث البلد وعلينا المحافظة عليه، التجول في المدينة يستغرق ساعة ونصف، على رأس الساعة الرابعة عصرا ننطلق من مدينة بابل متجهين الى مدينتنا، ومن يتأخر عن الموعد يبقى هنا يحرس البوابة عقابا له.
ضحك الجميع! وقالوا نعدك بأننا لن نتأخر أستاذ؟ .
اقتربنا من مدينة بابل ومن العبارة التي خطت على الجدران هنا بابل ارض الكنانة هنا الحضارة، بدأ التلاميذ بتجهيز حقائبهم، والبعض الآخر كان نائما من التعب، وآخرون جعلوها رحلة للشعر والأدب، كلٌ يغني على ليلاه.
توقف السائق عند المحطة الاخيرة التي يقف عندها السائقون، سار الجميع نحو البوابة العملاقة التي كانت تدل على قلعة كبيرة، كل قطعة هنا لها حكاية، دخلت مع زميلي في الصف من هذه البوابة وبدأنا في تصوير المكان وكتابة الذكريات، حجر كبير لفت انتباهي، تركت زميلي وذهبت نحوه، قطعة حجرية كبيرة، كهيئة أسد متحجر، يجثم على جسد بشري، التقطت اكثر من صورة، واخيرا صوّرت سيلفي معه، لأول مرة يدهشني منظر كهذا، على جانبه خطت عبارة (أسد بابل)، بحثت عن استاذ التاريخ لأستفسر منه عن هذا الأسد الجاثم، عثرت على أستاذ التاريخ ومع مجموعة من التلاميذ يتحدث عن هذه القطعة الحجرية (أسد بابل)، أخرجت من حقيبتي جهاز التسجيل، فكان (أستاذ عامر) يقول للتلاميذ: هذه القطعة التراثية هي" تمثال لأسد عثر عليه في مدينة بابل الأثرية في العراق في (سنة 1776) من قبل بعثة حفريات أثرية ألمانية، صنع من حجر البازلت الأسود الصلب، حيث يظهر هذا التمثال على شكل أسد يقف على شخص بشري، طوله يبلغ حوالي مترين وهو موضوع على منصة طولها حوالي متر عثر عليها بالقرب من مبنى الجنائن المعلقة، رجح بناء هذا التمثال من قبل الملك البابلي الكلداني (نبوخذ نصر الثاني (605-562 ق م)، إلا أن شكله ومادة صنعه رجحت العلماء من أنه قد يعود إلى فترة الحيثيون، وعلماء آخرون قالوا أنها من المحتمل أن تكون من الغنائم التي غنمها البابليون أثناء فترة حكم نبوخذ نصر الثاني أثناء إغارته على بلاد حاتي، وعلماء آخرون قالوا أنها من المحتمل أن تكون من الغنائم التي غنمها البابليون أثناء فترة حكم نبوخذ نصر الثاني أثناء إغارته على بلاد حاتي، ويرى الباحثون أن تمثال أسد بابل هو تجسيد لقوة بابل وفرض سلطتها على الشعوب.
" وقد اعتبرت هذه القطعة النحتية من أهم الشواهد الحضارية لـ (بابل) بشكل خاص وللفن فهناك من يقول أنه لم يعد للبابليين لأن أسلوب تنفيذه الفني وطريقة تصميمه بعيدة عن الأسلوب البابلي في فن النحت، وهو يقترب من أسلوب (الفن الحثي) الذي يمثل الحضارة (الحثية) المجاورة لحضارة (بابل) اللتان تحاربتا فترة من الزمن وانتهت تلك الحروب بانتصار (البابليين).
" على هذا الأساس قد يكون من المحتمل أنه جلب من (الحثيين) كأحد غنائم الحروب التي خاضها (نبوخذ نصر الثاني) ضد أولئك القوم في شمال أرض الرافدين، ثم أن منطقة بابل بأراضيها السهلة والمنبسطة خالية من الصخور ومن الأحجار كحجر (البازلت الصلب) الذي يتواجد أكثر في المناطق الشمالية البعيدة عن (بابل). فمن أين جاء البابلي بهذه الصخرة الثقيلة والكبيرة؟ ومهما يكن من أمر تلك الآراء، فإن عثور فريق التنقيب عليه كقطعة آثارية مهمة جدا في تاريخنا.
ويرى الباحثون أن تمثال أسد بابل هو تجسيد لقوة بابل وفرض سلطتها على الشعوب. وقد اعتبرت هذه القطعة النحتية من أهم الشواهد الحضارية لـ مدينة (بابل) بشكل خاص، بشكل عام، فهيئة الأسد تبدو ثقيلة وهي تجثم على الجندي الخاسر المنهزم امام الأسد رمز البابليين، عندما استخدم الفنان حجر (البازلت) الصلب للتعبير عن ذلك.
ويحكى ايضاً عن اسد بابل: هو يتربع فوق فتاة بصورة غير مناسبة، قالوا ان هذا التمثال كان لأخ يزني بشقيقته (زنا المحارم) فحوله الله الى حجر ليكون عبرة لغيره، الاساطير عن هذا التمثال كثيرة ولكن لم يثبت عند علماء الآثار هذا القول.
تلاحظون ان في كل مكان من العالم هناك من يحتفظ بآثار مدينته، من السرقة والضياع والاهمال، إلا نحن لا نعرف قيمة اثارنا إلا بعد سرقتها وضياعها كما فعل داعش في اثار الموصل، لذلك قررت ان تكون رحلتكم المدرسية لهذا العام لهذه المدينة الاصيلة في تراثها والتي ذكرت في القرآن الكريم، باسمها(بابل)، انتم ابطال الغد، حافظوا على هذه الاثار واجعلوها قضيتكم، البلد الذي لا يحمي اثاره ومقدساته سينتهي من ذاكرة العالم وينتهي، ومازال الشعب العراقي محافظا على هويته العريقة وحضارته في انحاء العالم، رغم الحروب التي مر بها والاهمال، واجبنا اليوم ان نعيد لهذه الاثار الحياة برجوع السياحة الى بلدنا، وتعريفهم بتاريخ وطننا، فهذه مسؤولية الجميع.
وايضا المحافظة على نظافتها وعدم رمي النفايات او الكتابة عليها، لا تخرب مظهرها بيدك اجعلها اجمل وافضل، المشاركة في الكتابة عن هذه الآثار العظيمة وترجمة النص الى اكثر من لغة لإيصالها الى جميع انحاء العالم، عمل حملات تنظيمية في إعادة إعمارها وتأهيلها لأنها ستعيد الحياة للسياحة وتدعم الاقتصاد، بأيدكم يا ابنائي تجعلون وطنكم وتراثكم أَرْقى وأَفضل، فعندما تقول انا عراقي.. انا الحضارة، انا من علمتكم الكتابة وانا من رويتكم من عذب مائي، انا الاسد البابلي، وانا القلعة الحصينة.
هتفنا جميعا ومعنا الاستاذ، انا عراقي، سعدت جدا في رحلتي هذه وتعرفت على قطعة اثرية لا نظير لها في تاريخ العرب، شكرا مدرستي، شكرا معلمي.
اضافةتعليق
التعليقات