الهيام يا له من لص محترف يأكلني في ركن هذه الحجرة ببطء كالجذام، حين يتحدثون عنه تقف غصات متتابعة في حلقي لا أقوى على ابتلاعها، ففقدان الأب في الطفولة نار تحرق القلب..
لاتوجد كلمات في قاموس البشرية، كي أعبر عن إحساسي بفقد الامان... فأبي ذلك الرجل الذي لن أنساه أبداً ولن يأخذ مكانه أحد... أيام جميلة مضت بلاعودة طوتها أغبرة الحنين، شاء القدر أن يشتعل قلبي بنارين نار الحب ونار الحرب!.
لازلت أتذكر لحظة وداعه عندما عزم على الرحيل إلى الجبهة كان في عجلة من أمره وكنا في حيرة من أمرنا، قال: أحارب كي تعيشوا بسلام ثم ذهب..
ولازلت أبحث عن معنى كلامه، عن أي سلام تكلم؟
وهل كان يوجد السلام أصلا أم وعدني هكذا؟
أظن انها كلمة توجد في قاموس الخيال (حقيقة) وفي قاموس الواقع (مجازا)! مع مرور الوقت أيقنت بأن هذه الكلمة أسطورة! لست متأكدة من صلاحيتها في واقعنا، بعد رحيله لم أنعم بلحظة راحة وأدركت ان أبي كان هو نفسه (السلام).. سلب مني كل شيء دون أن يشعر حين ترك حبيبته وحيدة..
ليته لم يرحل، مؤلمة هي الحياة عندما تصفعنا بواقع مؤلم، عندما تأخذ منا من نحب دون رحمة نبقى نحن فقط وكومة من الذكريات القاتلة، تمنيت أن لا يعيش أحد آلامي، من يعرف ماذا يعني الفراق غير ذلك القلب الذي تحمل الوجع القاتل؟
ولفراق الأب قصة جرح لا يشعر به إلا من عاش تفاصيلها، تمنيت أن لا يكتب أحد تفاصيل هذه القصة من جديد كي لا يشعر بالنزيف في خلايا جسده الهزيل.
الأب هو ذلك الجبل الذي يحفظك من قسوة الأيام.. ولكن ربما الأيام أقسى بكثير وتقسو علينا بشدة...
ستغمض عينيك كي تجبر نفسك على النسيان ولكن دون جدوى، في كل مرة تجد نفسك بين تلك الصفحات العطرة من سجلات حياتك الممتلئة بالعنفوان الممزوجة بحب صادق وفجأة تفتح عينيك وتجد نفسك في سجنك البارد في ظلام أبدي..
يصبح جليسك الهم ويحتضنك الألم بقوة وتتشبث بك الدموع كي لاتبقى وحيدا، برأيك ياأمير ألم يكفيني هذا القدر من الألم؟ لازالت كلماتهم الجارحة مترسخة في خلايا دماغي عندما كانوا يسألونني ليس لديك أب؟!
وكنت أختنق من حجم الفراق الواقف في مجرى تنفسي وأتمتم، كان لي ولكن ذهب !
ذهب لأجل... ماذا؟
لأجلنا؟
لأجلكم؟
لأجل السلام؟
لم اعرف!!
لازلت غير قادرة على الوقوف، لم تَقْوَ ساقاي على النهوض ولكن بعد دخولك في حياتي، أشعلت نار الحياة في جسدي وأعطيتني الحياة من جديد، انت من علمني الطيران بعد ان كنت في سجن الوحدة وبمساعدتك إستطعت أن أنهض من جديد من تحت رماد الخيبة.
تعرف أنك لست سكنا فقط، أنتَ لِي روح الحَياة والحَياة كلهّا تختصر فيك، الم تقل لي، لن تشعري بالوحدة مجددا ماذا دهاك أنسيت؟
قلت بصوتك الرجولي أعرف مدى ألمك ولكن لو يتراجع الجميع من سيدافع عن الوطن؟
أجهشت بالبكاء بينما أسئلة كثيرة كانت تدور في خلايا دماغي، قلت لمَ أنت؟
هل إختفى الجميع كي تذهب أنت؟
لماذا في كل مرة أنا من يجب أن يتحمل الوحدة والغربة، أدركت حينها بأن الآلام قادمة كي تمزق آمالي، قلت سنعيش بسلام في يوم ما..
تعتريني قشعريرة وشعور غريب حين يذكر أحد هذه الكلمة أمامي ربما لم أتحمل سماعها لأنها في كل مرة تأخذ مني أغلى ما أملك !أو ربما وجدتها مجرد أسطورة لا تحمل في جوفها شيء! هيمن رعب عنيف على قلبي المسكين...
ذهبت أنت أيضا كي تهدي لنا السلام ولكن لازالت الأرض تنحب! ولكني فخورة بك لأنك لو لم تذهب لما بقيت الكرامة في هذا البلد، كنت من الممهدين للسلام العالمي، سيصفو الجو ذات يوم ويظهر الحبيب ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
عندي لك خبر سار؛ دمك لم يهدر أبداً، رجع داعش من حيث أتى ولم يبقَ منه شيء سوى نفايات على قارعة الطرق، سيرجع العراق كما كان بل وأفضل لأنه يحمل أسود شجعان يدافعون عنه، بذور السلام التي أودعها أبي وأمثاله بين أحضان تراب الوطن في طريقها إلى نماء، سننعم برؤية جمالها ورونقها قريباً.
نم قرير العين يا أمير العطاء، عليك مني آلاف التحية والسلام.
اضافةتعليق
التعليقات