في صباح يوم الجمعة كانت رازان تُلاعب اخوتها في ساحة الدار في يوم عطلتهم، اصوات ضحكاتهم تُعانق السماء، وألعابهم تفترش الأرض، قطع صغيرة وكبيرة، الصغير يختبئ خلف الشجرة ويغمض عينه حتى يختفي اخوته، وبعدها ترتفع الاصوات، (حَلّول)، يبحث عنهم في كل مكان، تحت الطاولة، وراء النافذة، لا يجدهم، يشعر بالتعب ويبدأ يصرخ في المكان، أين انتم؟، يظهرون من تحت الأماكن ويمسكون به، ليشعروه انهم هنا بجانبه.
رازان تُراقب اخوتها خوفاً من السقوط، شعرت بالملل والارهاق من المراقبة وصراخ اخوتها، جلبت من المكتبة دفتر وكتاب لتكتب الدرس، وعينيها تدور حول الصغار، في هذه اللحظة، وعلى الجانب الآخر من الساحة يركضون الصغار، ومع نظرة الخوف من عينيها، بضحكة شفافة، وتلحن في داخلها لحن الطفولة، أقبل مجيد نحو رازان أخته يشدها من جديلتها الشقراء وهو يبكي، احتضنت دموعه الساخنة اوراق الكتاب، هناك من أزعجه واخرجه من اللعبة، رازان تحتضن أخيها وتلاعب شعره وتترك قبلة على جبينه الناعم وتُهدىء من حسرته:
اجلس بقربي يا صغيري سأصنع لك لعبة من الورق.
يهز برأسه ويمسح دموعه بملابسه، يبتسم لها، لو ترجمت هذه الابتسامة لكانت شكراً.
أخذت رازان أوراق من دفترها، وبدأت تلفها وتقص منها، واخيها يراقب حركات يديها وكأنها تغزل.
صنعت له سفينة من ورق، يلهو بها عند بركة الماء الموجودة في فناء البيت، أخذها وهو يراقص الهواء بسفينته الورقية، اقترب الاخوين من مجيد و نظروا ما بيده، عرفوا ان رازان هي من صنعت هذا، فلا احد يتقن فن الورق غيرها.
حضروا عندها يتوسلون ان تصنع لهم كما صنعت لمجيد، رازان لا مجال للدراسة لها اليوم، فطلبات اخوتها لم تنتهي بعد، احمد يرغب ان تصنع له طائرة ورقية يحلق بها في سماء البيت، رافيل كانت تلح ان تكون لعبتها فتاة من ورق، الأوراق تملأ المكان، اكملت رازان لعبة احمد، شردت قليلاً، كيف تعمل لرافيل فتاة من ورق!، اخذت القلم ورسمت فتاة ذات شعر قصير على ملامح ساندي بل، وقصت الورق ولونت شعرها، سعادة رافيل لا توصف، الاطفال يلهون بألعابهم الورقية.
رازان تُرتب المكان بعدما أصبح فوضى، رمت بنفسها على الكرسي المصنوع من الخشب، وهمَّت بقراءة الكتاب، فتحت الكتاب وجسدها يئن من التعب، تقلب الصفحات، فجأة اغلقت الكتاب، وغارت عينيها بالدموع، شهقت، زفراتها كادت أن تحرق من حولها، لولا دموعها التي اطفأت تلك النار، لا أحد يجرأ أن يسألها ما بها؟
وقفوا صامتين ينظرون لامطار دموعها، و رعد روحها، وبرق جسدها، متى تنتهي العاصفة وتعود رازان الى حالها، ألقت الشمس سلامها وبدأت تودعهم، دخل الاولاد الحجرة، وبقيت هي جالسة لا تقوى على القيام، وكيف بها أن تقوم؟
استخرجت الصورة من الكتاب، وبدأت تشمها تارة، وتمر بها على قلبها تارة، تتلو كلمات لا يفهمها غيرها، بدأ العد التنازلي وعرضت الذاكرة فيلم الطفولة، وبدأ العرض الأول لطفلة كانت مع امها، وتابعت الاحداث عندما أنجبت الام اولادها الثلاث بعدها، وكيف كانوا يعيشون بسلام وأمان، اقتربت من المشهد الاخير، المشهد الذي مازال في ذاكرة رازان، تنهار عند عرض تفاصيل ذاك اليوم، الصورة هي التي نطقت وليست رازان، لو نظرت لها لقلت انها من زمن الابيض والاسود، لا تحسب انها من قبل ثلاثة أعوام فقط أُخذت هذه الصورة، جثة على الارض غارقة في الدم، مفتوحة الجسد، الرصاص نُقش على جسدها، والرأس ينزف ذكريات وصور أطفالها الاربعة، كانت أسيرة في يد داعش وقتلوها مع عشرة نساء بطريقة وحشية وسجنوا أولادها في حجرة لا يعرف بها الليل من النهار، صورة واحدة عرضت فيلم في ذاكرة رازان، نسيم الماضي يحرِّك خصلات شعرها الناعمة، تضطرم ذاكرتها لزمن كان فيه الدمار والقتل والبارود.
الخوف يسكن ارجائها وضحايا الحزن واشلاء الاطفال ترسم على خارطة صدرها، لتشعرها بمدينة كانت من الاموات لسنوات سقطت مقهورة مغصوبة، لو بعث الله إليهم رجالاً فأحيوها بأمره، واطلقوا سراحهم من ايدي الارهاب، وجاءوا بهم في هذا الدار، مع بقية من النازحين لتأمينهم من الموت، لا يسألونا عن ديننا ولا عن اسمائنا، غايتهم هو نجاتنا من السجن، وهناك من يحمل اخي الصغير، لو صح التعبير لقلت كنا مع الشياطين وجاءت الملائكة.
سقطت الصورة من يدها، لتلتقطها، قبلتها وجعلتها في قلب الكتاب خوفاً على اخوانها من رؤيتها، نظرت إلى السماء ورفعت كفَّيها وشدتهما نحو السماء تدعو لامها بالرحمة والمغفرة ولحشد وطنها بالسلامة والنصر، ولمدينتها بالحياة والعافية، لأول مرة ترى سماء مدينتهم صافية من دون دخان او رصاص، في تلك اللحظة شعرت بطمأنينة عجيبة، ورغبت هي الاخرى ان تصنع لنفسها شيء من ورق، جمعت الاوراق الممزقة وصنعت وطناً من ورق.
اضافةتعليق
التعليقات