أسدلت السماء نقابها حاجبة ضوء ماتبقى من القمر، جو كدر كئيب يستذكر فقداً، الثلث الأخير من ليالي شهر رجب أمام شمعة تتموج فتيلتها حاملة فكري عبر الزمن، أوقفتني على باب طامورة موحشة، جدرانها متقاربة تشع وسطها هالة نور لم يقوَ على إطفاءها ظلم البشر ولا ظلمة المكان، عابد ساجد يُردد: "أعوذ بك من نار حرها لا يطفى، وأعوذ بك من نار جديدها لا يبلى، وأعوذ بك من نار عطشانها لا يروى، وأعوذ بك من نار مسلوبها لا يكسى" يبكي ويُبكي الجمادات من حوله، أيُعقل مايجري لمثل هذا العظيم؟
سمعت عمامته تستغيث: يا ليت القوم سمعوا كلامه فأطاعوه، سألت في قرارة نفسي أي كلام تقصد على وجه التحديد؟، أجابتني: أما كُنتِ تقرأين للتو وصية مولاي لتلميذه هشام بن الحكم، جالت عيني بين أسطر الكتاب أمامي وضوء الشمعة دليلي (يا هشام: إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته) .
عادت عمامته تهمس: أترين كيف القوم زهدوا في الآخرة وطلبوا الدنيا فتركوا سيدهم في غياهب السجن يُعاني مرارة الظلم والغربة، أفلا يعقلون !
قاطعنا مكفهر الوجه حين جاء يزمجر ليُضيق القيود على مولاي، يضربهُ تارة ويركلهُ تارة أُخرى، يشفي حقد قلبه المسود بإيذاء النور، بكيت، صرخت متناسية أنني خارج ذلك الزمان.
تأن عمامته وتنحب وهي تندب: أيا ليتهم سمعوا وعيد سيدي فأدركوا خسارتهم (يا عبيد الدنيا بحق أقول لكم: لا تدركون شرف الآخرة إلاّ بترك ما تحبّون، فلا تنظروا بالتوبة غداً، فإنّ دون غد يوماً وليلةً، وقضاء الله فيهما يغدوا ويروح).
عاد ضوء الشمعة يجر بؤبؤتي نحو الكتاب، (يا هشام: مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة، ومشاورة العاقل الناصح يُمنٌ وبركة، ورشد وتوفيق من الله).
عُدتُ لغربة مولاي وجدتُ الدم قد تجارى من تحت القيود، وساقه قد رضها ثقل الحديد، تفكرت في حال أصحاب الإمام كيف تحملوا فراق سيد العلماء وبعدهم عن مُجالسته؟
سمعت صوت أحدهم وهو يمزج كل حرف بدمعة بين يدي ابن جعفر: سيدي متى الفرج فقد ضاقت الصدور؟ إن الفرج قريب يا ابن سويد ضحى على جسر بغداد جاءه الجواب حاملاً كُل البشارات .
على الجسر تجمهرت قلوب عانت البُعد عن ملاذها لسنوات، على مسافة منهم رُميت جنازة غريبة لا علم لأحد بشخصها، حلت الصاعقة هو سيدكم قد سرى السم في جسده فمزق أحشاءه فرحل يشكو غربته في أمة جهلت مكانته، هبت رياح حاولت إطفاء الشمعة مرت وشكت العجز، فمثل هذه الأنوار لا تُطفئ بل ستعلوا فتُضيء الظلمات حين يعود حفيد موسى في آخر الزمان .
اضافةتعليق
التعليقات