أتَحرَق شوقاً كي أعلم ما يُخبأهُ لنا المستقبل، لو تطلب الأمر بأن أدفع كل ما أملك من مال ومعة عشر سنين من عمري لفعلت على أمل أن أعرف..
نحن شباب اليوم استيقظنا على أمل جديد، على روحٍ نشطة، على قلبٍ مُحب. ما الدافع الأساسي لهذا؟ لا نعلم؛ ولكن ما نعلمة جيدا بأنه حان الوقت لنبدأ من جديد، وأن كل عراقي أصبح اليوم يفتخر بهذا الإنتماء.
في هذه السنة أكتوبر كان مميزاً منذ طليعته حتى نهايته، فقد بدأ بمظاهرة ضد الظلم وتلتها مسيرة لمن (خرج لطلب الإصلاح في أمة جدة مُحمد) وانتهى بثورة ضد الطغيان وطلباً للحرية.
أتصفح مواقع التواصل بحماس كبير لمعرفة أخبار الشارع المستجدة يخفق القلب في لحظات، وتدمع العين في اخرى، اقرأ بتأمل ما كتبه آخر الناشطين لمعرفة الأخبار.
الكثير ممن ظهروا أمام شاشات التلفاز وينادون بصدق وبقلوب مُحترقة لعمق الألم الذي نما فيها بأنهم لا يرغبون بالحقوق التي يطالبون بها لأنفسهم ولكهنم يسعون كي ينيروا الطريق لغيرهم وإن تطلب ذلك بذل أرواحهم، فنجد أحدهم يصرخ جاهداً لأنقاذ أبناء وطنه على الرغم من أنه لم ينقذ نفسه أولاً، طغى حبه لأهله وأصدقاءه وأقرباءه على كل شيء فآثر بنفسه لأجلهم كي ينعموا بالأمان والسلام لما تبقى من سنينهم.
تعلمنا في المدارس منذ طفولتنا الحديث النبوى الشريف ( مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) لم نجد له تطبيق في زماننا.
روى لنا أبي أحد بطولات جدي (رحمة الله) وهو يقول؛ كان أبي في فصل حصاد التمر والفاكهة (التي زرعها بعناية في حديقة منزله) يقوم بترتيبها بأبهى حلة لتظهر بإطلالتها الأخيرة كالطالبة المتخرجة من أرقى جامعات العالم، فيقوم بتزين طبق من سعف النخيل بالورود الحمراء والوردية ويضع انواع التمر على شكل دوائر متقنة حتى تتلاقح معاً فتعطي أجمل لوحة من صنع الطبيعة وبذوق بشري أنيق، ومن ثم يقدمها بكل حب لمن يحيط به من جيرانه حتى أنه يصل لما بعد الجار السابع.
أجهدنا أنفسنا بالإستماع لما يخبرونا به من سبقونا عمراً، كانوا يَرْوُون قصصاً عن أيام الماضي ويَرْوُون بفخرٍ ما كان سائداً في زمانهم من معاني للجار الحقيقي، أجدادنا يتفاخرون بجيرانهم الذين أصبحوا أحد أفراد عوائلهم بل أصبحوا أحد أركان العائلة العراقية، لا أنسى ذلك اليوم حين رأيت أقاربي وجدتي يبكون على وفاة جارنا ثمانيني العمر وكنت حينها لا ازال في الخامسة عشر تفاجأت بكمية الدموع التي ذُرفت عليه لأنه كان مجرد جار منذ أربعين عاما أو أكثر، كانوا يتبادلون الطعام والأفراح والأحزان فيما بينهم آنذاك، وأنا عمري خمسة عشرة سنة لا أعرف سوى اسم جارنا ولم ألتقي بهم يوماً قط، أبديت تعجباً كبيراً لأنني لم أشاهد من قبل أحدا يبكي على جارة!! وهكذا بالنسبة للصداقة التي لا زالوا يتفاخرون بها.
يتحسفون على كل دقيقة لم يبدوا لها أهمية في أيامهم التي وصفوها بالجميلة والمميزة من سنواتهم الماضية ويظهرون أسفاً كبيرا لما وصلنا له من تفرقة ومن عدم اكتراث أحدنا بالآخر.
من الصعب أن يظهر الانسان تعاطفاً بمن حوله وهو لا يعرفهم بعمق ولكن هذا ما لم نشهده في عراقنا في شهر أكتوبر، في أكتوبر عدنا لايامنا الجميلة التي هي أصل حضارتنا وكرمنا العراقي الأصيل، كنا مصداقاً لقوله تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه).
اغرورقت الأعين لما شاهدنا خلال الأسبوع الأخير من شهر الإنجازات، هناك من يجري مسرعاً كي يحمي من حوله من أي خطر، وهناك الثُكلى التي تنعى من فقدت ولكنها مستمرة بالعطاء وتقديم الطعام لمن تبقى من هذا الشعب الخالد، وهناك من قتر على عياله كي يطعم الناس من حوله وهناك من وفر ماديا كل ما يطلبه من بقي في ساحات الثورة، الجميع كان يداً واحدة وقلباً واحداً ينبض، خرجوا فعلا كي يثوروا ضد الظلم كي يطالبوا بالحرية، فقد انتصر ابناء العراق الآن عندما استعادوا مجدهم ووحدتهم.
لنستمتع بهذه الفسحة الجميلة ولا نسمح لها بالزوال من بين ايدينا، سننتصر مادام الحق معنا نحن العراقيون نستحق ذلك، ولنكمل هذا الإنتصار ليظهر بأبهى حلة كما رأينا ذلك في هذه الأيام والعراق بدأ يُبنى على يد شبابه على الرغم من إستمرار الثورة، الكل يعمل معاً، الجميع يساند الآخر من لا يتكلم مع صديق بعيد لأي خلاف ماضي أصبح يخرج اليوم معهُ ويهتفون معاً "نريد وطن" "سلمية" وغيرها.
من بدأ برسم إبداعاته على الجدران التي هُجرت منذ سنوات ومن بدأ بصبغ الأرصفة بكل أمانة وكأنه يصبغ منزله، وبالإضافة للحياة التي اعادوها الشباب للأنفاق والشوارع العراقية التي هُجرت، لا أستطيع حصر ما نراه اليوم من تلاحم بين أبناء مجتمعنا الكل يعمل بما يستطيع حتى أننا قدمنا أرواحاً في ثورتنا الصامدة.
الرسام يعمل بفرشاته والكاتب يعمل بقلمه والخطاط يتأنق بأحرفه والمصور يبدع بلقطاته والصحفي ينقل الأحداث بأمانة والطبيب يعمل بعلمه وحتى الفقير قدم ما يستطيع لوطنه والطالب الذي بدأ برفض الفساد فخرج ونادى "ماكو وطن ماكو دوام"، كل منا قدم في شهر أكتوبر الماضي ما يستطيع، الأجمل أن نُبقي هذه الروح وهذا الإخلاص لما بعد شهر أكتوبر كي ينتشر هذا الجمال إلى باقي أشهر السنة أو إلى السنوات القادمة، لنصبح عائلة واحدة في وطننا على الرغم من اختلافنا.
الكبار، الصغار، النساء، الشباب الجميع نهضوا رغم الأذى الذي يحيط بهم فكيف لو توفرت لهم كل أساليب التطور والنهوض!، مازال الوقت معنا كي نقف معا ونطالب جميعاً كي يعم السلام ونسترد حقوقنا، المجد لنا نحن المجاهدون، سيخلدنا التاريخ بما قدمنا.
ماذا لو أننا لم نعش تجربتنا المريرة من قبل، هل كان بالإمكان أن نكتشف جمال أرواحنا الحقيقية؟!
وهل سنحصل على "وطن" في نهاية المطاف؟! لا يهم ما الجواب؛ إن حدث ولم نحصل على حقوقنا من أرضنا الحبيبة فليس بالمهم لأن الأهم هو ما اكتشفناه في أرواحنا الجميلة وأن نستمر بعطائنا وإخلاصنا لأرضنا، وهذا الجمال سيستمر بالنمو ولن يتلاشى مهما حدث.
اضافةتعليق
التعليقات