كانت تنظر إليه كل ليلة بشغف على الرغم من الدماء التي كانت تظلل رؤيتها إلا أنَّ نور وجههِ يوضح لها السبيل وبكاؤه يعيد لها ذاكرة الطّف، سجود طويلٌ وليلٌ هادئ لولا دوّي عبادته.
في ليلة مظلمة رفع رأسه ومضى يتحسسها بيديه وما هي إلا لحظات حتى استشعر حرارة جمرٍ يصهرُ القلوب قبلَ الجلود وشمسٍ حشدت لهيبها لعاشرٍ ما بعده عاشر، نساء وأطفال تتلوى من العطش؛ أدخلته ذكرى جامعته الحديدية (التي لطالما أثقلت بدنه النحيل بالجراح) إلى أرض كربلاء مرة أخرى، ولكن هذه المرة بِحُلّةِ روحٍ مهشمة تقف تارة وتقع تارة أخرى، وهي ترى الحسين وحيداً فريداً لا ناصر ولا معين وقد أطلق ناعيته التي جدّدت حزن سنين الكمد ومشاهد الطف التي أعادت رسم نفسها في ذاكرته.
تقدمت الروح المهشمة نحو الحسين أرادت عناقه مواساته والذود بين يديه ولكن... هيهات هيهات من أن تعيد الأحداث سياقها ثانيةً، توجهت نحو الخيام ووجدت ذلك العليل الذي اعتلَّ قلبُ كل من رآه.. لكن شاءت حكمة الجليل أن يُرى هزيلاً، ذلك العليل المتألم، الصارخ، المتهجد، الذي يجد الألم سكونه في قلبه الصابر، ذلك العليل الذي لطالما نازعت (الروح المهشمة) داخل جسده، يرى قتلى كربلاء مطروحين على الرمضاء ولا يقوى على حمل السيف رعايةً لإسلام رسول الله (ص) والرسالة السماوية، يرى زينب وهي تداويه وتمرضه حفاظاً منها على إمام زمانها وأمانةً من أخيها الحسين.
مرّت روح الطهر على كل الخيام وقد خلت من رجالها ما خلا سجادها، انحنت انكسرت أو لَرُبّما أرادت سكون جسد عليلها مرّة أخرى ولكنها كانت تعلم أن لذلك العليل روحٌ ثائرة تأبى الجلوس والحسين ينادي (أما من ناصر ينصرنا؟، أما من مغيث يغيثنا؟، أما من ذابٍ يذبّ عنّا)، خرج السجاد (ع) وروحه بين يديه، تمنت لو أنها تستطيع أن تسنده أو أنها تكونُ عصاً إلى جنب عصاه، أخذ سيفه وتوجه إلى ساحة المعركة فأنقض عليه حُسينه واحتمله إلى المخيم، وقال: يا ولدي ما تريد أن تصنع؟ قال: يا أبه إن ندائك قد قطّع نياط قلبي، وهيّج ساكن لُبّي، أريد أن أفديك، عند ذلك بيّن له الحسين (ع ( حكمة الجليل وهوّن عليه عذاب قلبه، وقال: كأني بك يا ولدي أسيرٌ ذليلٌ مغلولةٌ يداك، موثوقةٌ رجلاك.
نازعت روحٌ أخرى بداخل روحه المهشمة وتمنت لو أنها فارقت جميع العوالم بين الماضي والحاضر وتوجهت مع روح الحسين إلى الفردوس ولكن... إمام الزمان لا تحكمه عواطفه وإنما تحكمه كلمة الحق وصوت الدين الذي كان هو غاية ثورة الحسين ( ع).
إنّ ألم الفقد يوسد القلب على نطعٍ من جمر الأسى، فكيف إذا كان فقد إمام الزمان والوطن الحنون وجميع الأهل والخلّة في آن واحد، والتزام الصمت القاتل لئلا تخلو الأرض من حجة، ولكن الرضا بما ارتضاه الله يسكّن آلام القلب الجمّة.
موكب السِبا قد تهيأ، نوقٌ عجاف هزيلة لا تسترها إلا السماء، نظر يتيم النبوة إلى عمته العقيلة، سبقته روحه الطاهرة وانحنت لِتركبها على الناقة علها تشعر أن لعباسها وجود ملكوتي ولكن هيهات للأرواح أن تغير ما جرى، قام زين العابدين (ع) وهو يرتعش من الضعف، فأخذ بعصاه يتوكأ عليها وأتى إلى عمته وثنى ركبتيه وقال أركبي فلقد كسرتي قلبي وزدت كربي فلم يسعفه بدنه النحيل وسقط على الأرض، ودّت الرمال لو أن لها يدان تحتضنُ سليل الحسين(ع)، كانت قلوب الجماد أحنّ على رحل الحسين(ع) من قلوب هؤلاء القوم الغلاظ الشداد.
ذُعرت روح الإمامة من أن تُعيد الطفوف أحداثها ثانية فلم تٌشفَ جراح أول عاشر ليكون هناك آخر، كم غيبت الأرض في ثراها من دموعه فما كادت الروح إلا أن تعود لصاحبها، عادت إليه في لحظة الانقطاع بين يدي الله، لحظة سجوده لله جلَّ وعلا فأشرف مولى له وهو في تلك الحالة ودموعه قد حفرت خندقها في خديه الشريفين، فقال له: (يا علي بن الحسين، أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فرفع رأسه إليه وقال: ويلك أما والله لقد شكا يعقوب إلى ربه من أقل مما رأيت، حين قال: يا أسفاً على يوسف، وإنه واحد وأنا رأيت أبي وجماعة من أهل بيتي يذبحون حولي).
نحب الساجد أربعين عاماً وهو يرى ويسمع كربلاء كل يوم، لم تكن دموعه لخوف أو لضعف
وإنما كان أذان لتخليد ثورة الحسين (ع).
انتهت حياة الإمام زين العابدين بين عبادة الباري وخدمة عباده وتوثيق ثورة الحسين (ع) بعِبرة وعَبرة، ولكن لم تنتهي رحلة جامعته الحديدية فلقد ورثها إمام العصر مُثقلةً بجراح طفوف الحسين (ع) وهموم شيعة الحسين (ع).
اضافةتعليق
التعليقات