"كانت هذه السنة الأولى لي ونحن معا على ساتر المعركة, نترجل بين الجرحى والقتلى لنوثق معارك الانتصارات التي حققتها القوات الأمنية وفصائل الحشد الشعبي, كل شيء هناك كان يوحي للموت إلا هي كانت توحي بالنصر دائما, فرائحة الأمومة المختلطة برائحة البارود التي تنبثق منها تمنحني القوة والثبات في كل لحظة ضعف أمر بها, كان الحديث معها يحيطني بالشجاعة المتوغلة في قلبها والتي جعلت من الموت يهابها, فكيف لأمراة ان تكون تارة أم, وتارة أخرى محاربة, فبيد تمنح الحنان ويد أخرى توثق الحدث...
الى ان جاء ذلك المساء الذي عدنا فيه أدراجنا محملين بالأشواق لذوينا, كل منا يحلم بأن تطأ قدمه قعر بيته ليرى والديه او عياله, وانا معهم أتلظى شوقا لصدر أمي الحنون.
وهنا توقف سائق العجلة التي تقلنا اذ طلبت منه المراسلة الحربية (رنا العجيلي) الوقوف لدخول احد الأوكار التي خلفها داعش من اجل توثيق ما تركوه خلفهم, كانت شجاعتها تذكرني بشجاعة امي لهذا كنت أناديها بأمي, سمعتها تهتف باسمي (منتظر ماما تعال ويانه) إلا إني تكاسلت وحينما ابتعدت لوحت لي بيدها تحثني على اللحاق بها, ترجلت من المركبة ملبيا ندائها, إلا إن ارتطامي بالأرض وإصابتي حال من وصولي إليها، لم اشعر بشيء حتى الألم, لم أرَ سوى الغبار المتصاعد مع أصوات العجلات القادمة نحونا, لا اعلم ان كانت للعدو ام لنجدتنا, حاولت الوصول إلى أمي رنا زاحفا رغم جراحي البليغة لإخراجها من الأنقاض, وضعت رأسها في حجري كانت تلوح لي بآخر رمق بيدها بستر ساقيها لشعورها بأنهما عاريتان, إلا أنها لم تكن كذلك فقد كانت بدون جزئها السفلي من جسدها وهي تحتضر بأنفاس أخيرة, وسدتها على الارض بيد مرتعشة لأودعها دون موعد لقاء, اقترب مني صوت وقع اقدام الرجال لم ارَ وجوههم فقد غطى الغبار وألم اصابتي على بصري, بقيت مكاني ساكنا لم اكترث فلعليّ انال الشهادة كأمي رنا, الا انهم لم يكونوا كذلك فقد اقلوني إلى المشفى لتلقي الإسعافات اللازمة".
كانت هذه قصة استشهاد المراسلة الحربية (رنا العجيلي) سردها لنا المصور الحربي (منتظر عادل) الذي كان برفقتها في آخر لحظات حياتها.
لقد سجلت المراسلة الحربية (رنا العجيلي) أجمل مشهد بطولي حمل بطياته بسالة امرأة عراقية لم تبالي بأزيز الرصاص أو رائحة البارود التي ملأت ارض المعركة, بل ترجلت بها كأنها في وادي زهور من اجل أن توثق الأحداث وأداء عملها حتى استشهدت.
(بشرى حياة) سلطت الضوء على عمل المراسلات الحربيات لنتعرف على طبيعة عملهن وما يواجهن من صعوبات ومخاطر.
يكمل لنا المصور الحربي (منتظر عادل) عن أكثر ما شد انتباهه في رحلته التصويرية مع المراسلة (رنا العجيلي) قائلا: " كانت امرأة صلبة بصلابة الرجال لا تخشى ان تكون شهيدة, وقد وثقت الكثير من الانتصارات ابتداءا من الموصل وحمام العليل, والرمادي, حتى وصولا بحديثه والشرقاط وعكاشات, الى مكان استشهادها في منطقة القائم, ارادت ان تكمل رسالتها الإعلامية إلا إن الشهادة كانت لها خير حدث وثقه التاريخ, ليرحمها الله ويلهم ذويها الصبر".
قدسية الحشد
وتسرد لنا الإعلامية نور الحلي عن بداية تجربتها كمراسلة حربية قائلة: "في عام 2014 في الشهر السابع تحولت الى العمل العسكري مع الحشد الشعبي لأكثر من تشكيل وفصيل كانت رحلة عملي متعبة ولا تخلو من الخطورة الا اني لم اتوانى عن اداء واجبي".
واضافت: "تعرضت للاصابة في شظايا براسي ويدي في تحرير الفلوجة, ورفضت الاخلاء حتى اغمي عليّ وحين استيقظت وجدت نفسي في طبابة الحشد الشعبي، كانت الشظايا تملأ راسي ويدي, وكان الطبيب من أهالي الديوانية تحسس بعض الشيء لكوني امرأة ولكن لم يتردد في إسعافي على الفور".
وتابعت: "اذكر كيف كنت اصرخ (لا تلمسني اقلوني الى بغداد، التوجيه لا يسمح بلمسي لكوني امرأة) لم يبالي بصراخي واجابني قائلا (لا حياء في الطب) وقبل دقائق من إصابتي كنت مع اتصال بزوجي وأطفالي كان يقول لي (نور اشعر باختناق في صدري احس بأن مكروه سيحصل) وحينما اشتدت المفخخات والانتحاريين على القاطع كتبت له رسالة بهذا النص (انا احبكم خلي بالك على الجهال.. وابريني الذمة) كانت أيام لا تنسى بالنسبة لي".
واصلت حديثها قائلة: "ما لفت انتباهي هو ان ما يطلق على الحشد بأنه مقدس لانه فعلا كذلك فهم اصحاب رساله علوية, محمدية, ومجاهدين بحق, فقد كان الحشد المدني ممتد على طول الطرق فيه الرجال والنساء وهم يوزعون الغذاء والشراب وحتى الملابس على المقاتلين وطيلة ساعات اليوم, حيث نصبوا مواقع ومخيمات لهذا الغرض وهي تشبه المواكب الحسينية الخدمية".
واشارت الى: "إن المواطنين من أهل المناطق المحررة استوعبوا درس عصابات داعش القاسي الذي ترك مدنهم خرابا وفرض عليهم قوانينه ولعل أكثر المنشآت الحيوية التي خربها داعش في ناحية القيارة هي الآبار النفطية التي احرقها على مرأى من الطائرات الأمريكية حسب احد مهندسي الموقع, ومخلفات هذه الآبار هي نسج ضلالة سوداء على سماء القيارة والمناطق المحيطة بها, جعلت جميع المواطنين مصطبغين باللون الأسود حتى أغنامهم وحيواناتهم, وأنا كمراسلة حربية وبعد مرافقتي للمقاتلين في مواقع الصد الأولى للعدو تناهت إلى مخيلتي المقارنة بين هذا المقاتل الذي وضع روحه على كفه وبين بعض السياسيين الفاسدين المتنعمين بأموال هؤلاء الأبطال".
وعن اكثر موقف قاسي واجهته في رحلتها الاعلامية في ساحات الوغى قالت: "هي ساعة دخولنا انا وزملائي في تحرير الحويجة معا حينما خرجت من دونهم, اذ سقطت قذيفة هاون على قارعة الطريق منهم من استشهد ومنهم من اصيب بجروح بليغة, اذ خسرت وقتها أخي وصديقي المراسل الحربي (حمزة العبودي) الكثير من المواقف مررت بها والتي من الصعب ان تمحيها الذاكرة, ولكن أصعبها كان حينما رأيت الشهيد حمزة ممددا على الارض ولا استطيع فعل شيء له".
ختمت حديثها: "مازلت اعمل كـ اعلامية لبعض القوات في الحشد الشعبي, وهدفي كان ومازال توثيق انتصارات اخوتي المجاهدين والقوات عامة, اسأل الله ان يرحم جميع شهدائنا من المقاتلين والمجاهدين والمراسلين الحربيين".
المرأة وميدان الحرب
ومن جانبه قال رئيس رابطة الإعلاميين الحربيين عمار خزاعي: "ان العمل الميداني الحربي فريد من نوعه إذ أنه يختزل تجارب الإنسان في محطات كثيرة قد تكون سببا في تغير السلوك أو التحمل أو أنه يضيف إلى الشخص مقومات الصمود والتحدي, باعتقادي الحرب في العراق مختلفة تماما عن الحروب التي جرت في المنطقة لأن السمة الغالبة في المعركة تعتمد على العقيدة والإيمان فنحن أمام معركة محتدمة يتصارع فيها الحق والباطل، فمن جهة هناك أشخاص يقتلون ويأسرون ويسبون ويغتصبون ويسرقون ومن جهة أخرى هناك أشخاص يمدون يد العون ويساعدون العوائل ويترحمون على الأطفال والشيوخ والنساء، لذا فنحن حينما كنا نرافق أصحاب القلوب الرحيمة من الأبطال سواء في الحشد الشعبي او القوات الأمنية ونشعر إننا في حصن متين سندت دعائمه بالفطرة السليمة هو الذي دفعنا أن نكون في الصف الأول للنقل بكل صدق وواقعية ما يسطره الأبطال في ساحات القتال".
وأضاف: "ولم تكن المرأة غائبة عن العمل الميداني الحربي فرغم خطورة المشهد وصعوبة عمل المرأة في هذا الميدان إلا أننا وجدنا نساءا تسير في المقدمة واغلب هذه النساء هن من الاعلاميات العراقيات بالإضافة الى إعلاميات عربيات وأجنبيات وكل منهن تحاول ان توثق البطولات والانتصارات".
وتابع: "انا واثق بأن كل امرأة وصلت إلى خط الصد فهي شجاعة ومثال للصبر والتضحية والوفاء وخير دليل تلك التضحية الأرواح التي قدمت كقرابين من أجل تربة البلاد, اما نحن عائلة الإعلام الحربي فإن الاعلاميات الحربيات محط فخر واعتزاز بالنسبة لنا لأنهن وقفن معنا صف واحد في توثيق البطولات للتاريخ".
اضافةتعليق
التعليقات