لا اذكر جيداُ لحظة ولادتي، ولكني بلا شك ولدت في مصنع حالي كحال باقي "الاستكانات"، ثم تم نقلي الى السوق مباشرة، بعد ذلك اشتراني رجل عجوز اشيب الشعر، ونقلت مع اخواني الى مطبخ قديم محشور في زاوية دائرة حكومية.
ومن هنا بدأت حياتي، كنت استكان هادئ وجميل، ذو حزام ذهبي عريض، ولكن الحزام بدأ يختفي شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن بسبب تعرضي المستمر للماء والغسل، كنت استكاناً مطيعاً احمل في بطني الشاي العراقي الأصيل اسود اللون، ليرتشفه الموظفين في الدائرة.
ايامي كانت تحفل بمغامرات واحداث غريبة، في احدى الصباحات المشرقة شممت رائحة الشاي العراقي الممزوج بالهيل، فعرفت حينها بأني سأذهب في جولة مميزة، وبعد مدة قصيرة حملت الشاي في بطني، ونقلني صاحبي العجوز الى غرفة حجي صاحب (هكذا يدعونه الموظفين في الدائرة) الموظف الذي لا يأتي الى الدائرة الاّ في المناسبات الرسمية ويوم استلام الراتب الشهري، لأنه ذات علاقة قوية مع المدير!. كنت اتعجب من امره، واتعجب اكثر من الذين يغضون البصر عن هذا الاستهتار الذي يلحق الضرر بالمجتمع وبوضع البلد!، ولكن من امن العقوبة اساء الأدب!، كما ان الله لا يغفل عن التقصير بالعمل بل يحاسب عليه قبل القانون، ولكن يبقى ايمان الشخص واخلاقه هو الضمير المتصل الحي الذي يمنعه عن التصرفات الخاطئة.
بعد ما انتهى حجي صاحب من شرب الشاي، اخذني صاحبي العجوز وأعاد ملئي من جديد ثم اخذني الى غرفة المدير الفخمة التي تحتوي على تبريد مركزي على عكس غرف الموظفين، استأذن صاحبي ودخل الى الغرفة، ثم وضعني على طاولة المدير، نظر المدير اليَّ نظرة متعجرفة وقال: "أيها العجوز الاخرق قلت لك الف مرة لا تسكب لي الشاي في هذا الاستكان الوضيع، هيا خذه واسكبه في كوب انيق".
لم استغرب من ردة فعل المدير فهو كعادته رجل عديم الاخلاق والتربية، يبرز عضلاته على هذا العجوز المسكين الذي يحاول بهذا العمل ان يحفظ ماء وجهه من السؤال والطلب!.
ثم تغيرت وجهتي من غرفة المدير الى غرفة محمود، الرجل الثلاثيني ذو الوجه المبتسم، وما ان دخل صاحبي العجوز حتى استقبله محمود بأهلاً وسهلاً ومرحبا، وأخذني منه، وقضي بعض الدقائق وهو يسأل عن صحة العجوز واوضاعه واذا كان يحتاج شيئاً ما، ثم اخرج من دولابه ظرف ابيض ودسّه في جيب العجوز وهو مبتسم، اظنه كان يحوي شيئاً من المال ليقضي به العجوز حاجياته المعيشية، وأصبحا يتبادلا اطراف الحديث حتى دخل عليه شاب عشريني، ورمى بوجهه ملف معين، وقال له بلهجة غير مؤدبة: "ستوقع على هذا الملف رغماً عن انفك، من الواضح أنك لا تعرف انا ابن من؟!، وقع على الملف قبل ان اسود عليك حياتك".
محمود رجل طيب جداً وبسيط، انا اظن بأن الله يحبه كثيراً، لأن وجهه بشوش ويحب فعل الخير ويساعد الناس، وهذه الصفات هي نفس الصفات التي يريدها الله ان تتوفر في عبده، فالإنسانية تنبع من فعل الخير، وبالمقابل من يفعل خيراً يرى خيراً، لأن هذه هي سياسة الله، فمن يفعل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يفعل مثقال ذرة شراً يره!، ولكن هنالك بعض الناس يسيرون على نهج الشيطان، ويريدون ان يتحقق لهم كل شيء رغماً عن انف الكل، حتى وان كان على خطأ وذلك بسبب علاقاتهم السياسية الوسخة و انتماءاتهم لجهات خبيثة، يستخدمون التهديد والسلاح كأسلوب من أساليب التفاهم!، ولكني متأكد بأن محمود لن يصغي الى هذا الشاب ولن يسمح له ان يصل الى هدفه حتى لو كلفه الأمر غالياً.
ولا اريد ان اتحدث عن غرفة المعاون، هذا الانسان البذيء الذي لا اتحمل ان يتوسخ رأسي بفمه الذي يأكل الحرام، يعرقل أمور العالم ولا يكمل ملفاتهم الاّ بأخذ مبالغ مالية كبيرة، مع العلم ان الله اقرَّ بأن الراشي والمرتشي كلاهما في النار!.
وعلى كلٍ انا متأكد بأن لهم سوء العاقبة في الحياة الدنيا ومصيرا اسودا في الأخرة.
وبعد ما انتهى المعاون من شرب ما في داخلي والذي تمنيت لو يتحول سماً عليه بدل الشاي، اقترب مني صاحبي وحملني الى المطبخ، ثم غسلني بالماء والصابون جيداً واعادني الى سلة الاواني، واتضح لي بأن الدوام الرسمي قد شارف على الانتهاء، حقيقة هذا اليوم كان يوماً متعباُ علي، ارتكزت في مكاني وتأسفت على حال صاحبي العجوز الذي يتحمل فظاعة هؤلاء البشر ثم حمدت الله لأنه خلقني استكان شاي وليس موظف فاسد!.
اضافةتعليق
التعليقات