في تلك الليلة، قام لاداء نافلة الليل، ناظرا للسماء نظرة الراحلين اليها، وقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
خطواتك كسرت قلوب الأوز ف كيف بقلوب أبناءك وشيعتك؟
أدى وأكمل صلاة ليله، إعتلى المإذنة، وأذّن فخرق صوته بيوت الكوفة، فنزل مسبحا، مهللا لله، مصليا على النبي (ص)..
أيقظ النائمون للصلاة، وهو يتلو:
(إنّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشَاءَ وَالمُنْكَر..).
فما إن بدأ بصلاته، وركعته الأولى التي كان يطيل فيها ركوعه.. وسجدته الأولى التي ما إن قام منها، حتى ضربه اللعين ضربة، شجت رأسه الشريف، فسالت الدماء.. وخضبت لحيته المباركة.. صار يشد الضربة، ويضع بالتراب على رأسه، كي يتم صلاته من جلوس.. وبعدها ردد قوله تعالى: (مِنْـها خَلَقْنَاكُـمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
إحمرت السماء، هبت رياح عاصفة سوداء، تلاطمت الأبواب، جبريل ينادي في السماء:
تهدمت والله أركان الهدى .
ونـــــعاه جـــبريل ونـــــادى بــــــالسما وعلـــــيه كـــــادت بـــــالندا تـــــتـقطع
اليـــــوم أركــــــان الهـــدى قــد هدمت اليـــــوم شـــــمل المــسلمين مـــــوزع
اليـــــوم قـــــد قــتل ابن عم المصطفى اليــــــوم قـــــد قـــتل الــــوصي الأنزع
خرج الإمامين الهمامين، راكضين نحو المسجد نادبين أباهم (وآ أباه وآعلياه).. خرج الشيعة والموالون من ديارهم مسرعين، هول وفزع عظيم من شدة المصيبة، رأوه مخضبا بدماءه الزاكيات.. أحاطوا به من كل جانب.. فما إن طلب أن ينقل من المسجد إلى مصلاه، والناس حوله، باكين قد أشرفوا على الهلاك.. وقربوا من الموت لشدة النحيب والحزن..
وصلوا إلى الدار.. من كان في إستقبالهم؟ إنها لا غير، جبل الصبر زينب.. تلك التي ورثت مصائب أمها.. نظرت إليه.. وهو محمول على الأكتاف..
(أبوية اللي رباني، محمول جدامي، رأسه إنشطر نصفين يا ضيعة أحلامي..).
فبكت منادية "وأبتاه وآ علياه".
لــــم انـــس زيـــــنب مذ رأته وجسمه مـــــن فــــيض مفـــرقه الشريف ملفع
فــــغدت تخـــــضب شــــعرها لمـصابه وعـــــليه تــــــذرف دمـــــعها وتـــفجع
فماذا سيحصل في دار الوصي بعدها؟
***
ولا زالوا مجتمعين حوله، في حجرته، جاء الحكيم، ورأى الجرح العظيم، فقال: إن دواؤه اللبن.
أما في ساحة الكوفة، يجلس ذلك الصبي المكسور الخاطر في زاوية وصدح في أذنه :
إذهب والعب مع الصبيان، فإن قالوا لك: أنّك ليس لك أب، فقل لهم أن أبي هو "علي بن أبي طالب".
أسأتيتم؟ مرتين! وبكى بخفية.
والفتية الآخرون جالسين معا، يتحدثون عن ذكرياتهم مع علي، جاءهم ووقف أمامهم قائلا :
أما سمعتم من أهل الكوفة ما قاله الحكيم، وما دواء أبانا، هلموا بنا لجمع اللبن، فذهبوا من كل حدب وصوب، وإجتمعوا مجددا حاملين كؤوس اللبن، متجهين نحو بيت الأمير، مرددين: (يتامى يا علي باجر يتامى، إذا ترحل على الدنيا السلامة).
زينب تخرج من الحجرة، زفرة الآه التي تخرج من أنفاسه، تقطع أشلاء قلبها المكسور، تحاكي أمها فاطمة، بلسان الحزن والدمع، إنك في الجنة، وسيلثم جرح فؤادك برؤية المرتضى، وأنا أناديكما بأن تعودا لي يا جنتي ..
الحسين.. بجانب أبيه كلما رمقه، سقاه الماء إذا عطش، فبكى أبا الحسن قائلا: بني وغدا أنت وحيد، ممنوع من الماء، فمن يسقيك؟
حلّ منتصف الليل، أبناء علي لم يتركوه، فالحسن، على يمينه، والحسين علي يساره.. فقال: بني حسن.. نعم يا أبتاه؟ كل أحد ليس من ولد فاطمة فليخرج من داخل الحجرة فإني أريد أن أوصي..
هنا إصفّر وجه قمر بني هاشم.. إنه العباس.. وقام لكي يخرج! وإذا بصوت خافت، ضعيف، متعب، بني إلى أين؟
أبي أنا لست من ولد فاطمة!
بني عباس إجلس، فأنت عين فاطمة ..
وقالت زينب: أبي.. أريد من أخوتي من يكفلني، وأدارت ببصرها نحو قمر العشيرة..
فأخذ أباه بيده، ووضعها في يد زينب.. قائلا له: (وصيتي الأخيرة على هاي الأميرة، تضمها برموشك يبدر العشيرة..).
تحادرت الدموع من عينيه، تلك العين التي ستصاب بسهم المنية.. أخذ عهدا أمام أبيه بأن تكون أخته تحت حمايته.. ليرقد مجددا .
لكن كيف سيكون صدى الرحيل؟
***
بعالم من الشعور والأحاسيس، بنزف الروح، دماء القلب والشعور، حان وقت الرحيل، العلي إشتاق لعلي، الأملاك تتهاوى من سماء العلياء، مضطربة باكية من هول المصيبة، الكل عند باب فاطم؛ حتى الأنبياء، يعقوب يبكي دما! لكن هذا يوسف بجانبه!.
الزهراء محنية على من؟
إنه يعسوب الدين! سيودع أولاده، زينب؛ ترتمي في أحضان أخوتها فإنها ستفقد الأمان مجددا.
لكن لا بد للفراق أن يحين، ويمدد المولى رجليه، ليشهق شهقته الأخيرة ..
تاركا خلفه قلوب تتلظى نارا لفراقه، لتبدأ مرحلة جديدة من الظلم لأولاده.. بعده.. (وداعا يا حبيبي يا علي..).
ورحل الأب (علي راح ومكانه الخالي موجود..).
آجركم الله يا موالين ..
اضافةتعليق
التعليقات