شقوا الأرض لينبعوا منها ضيوف الإمام الحسين (عليه السلام) من كل حدب وصوب، وها هو موعد رحيلهم قد حان، وانتهت زيارة أربعين أبا الأحرار ببذل الغالي والنفيس ولا أحد من خدام الإمام الحسين (عليه السلام) يشعر بالرضا على نفسه، يقولون مهما فعلنا لن نوفي لحظة واحدة من لحظات السبي أو لحظات حرق خيام السبايا، بالقشعريرة والدموع تم الوداع الأخير، سيتجه كل فرد لأهله مصطحباً ذكريات موكبه وخدمته مع بعض الصور التذكارية.
وجدير بالذكر كم التعب والإرهاق والطقس الحار الذي واجهوه هؤلاء الموالين بلا تعب أو ضجر أو ملل ، ناهيك عن بذل الأموال وترك أعمالهم الخاصة لما يقارب (١٥-٢٠) يوم والخدمة المجانية للزائرين الكرام، وتقديم كل ما تشتهيه الأنفس وتختاره الأعين من ملذات الطعام والشراب وبإنتشارٍ تام على جميع الطرقات من أقصى العراق إلى أدناه، من شباب وشيبة ونساء واطفال، الجميع يشارك ويتوسل بأن يأتيه ولو زائر واحد ليتشرف بخدمته.
كانت الأجواء الروحانية تعم الطرقات، وجميع الزائرين يتساءلون مع أنفسهم، ما الذي أتى بنا بهذه اللهفة رغم قساوة الجو وحرارته المرتفعة؟ من الذي دفعنا بهذا الحب والاشتياق نحو محبوب لم تراه أعيننا قط؟ ما كم هذا المبذول والمجهود المادي والمعنوي و روح البذل والفداء باللاشعور بل بالجنون والهيام؟ وأيضا كل زائر يسأل نفسه ما هذه الخدمة العجيبة لم يُرزَق نبي أو وصي كما رُزِقَ الإمام الحسين بالحشود المحبة المليونية ومن كافة البلدان والجنسيات واللغات ومن لم يتسنى له الحضور لكربلاء فيحيي الشعائر بدولته؟ أي جنون بل أي هيام لخادمٍ يبكي لأنه لا يملك قدراً من الأموال لخدمة زائرين الحسين (عليه السلام)؟ بل أي شعيرة ربانية مأساوية حسينية لم يميتها الزمن بل تكبر زروعها وتتجذر كالنبتة المثمرة؟.
ما هذا الغرام والجنون الذي يتجدد بكل عام بنفس الحرقة والدموع والعزاء وكثرة الوافدين ومن جميع الطوائف والملل الإنسانية؟ فالجواب واحد لكل هذه الأسئلة وهو أن الحسين (عليه السلام) أعطى للرب أولاده وأقربائه وأصحابه وأفلاذ أكباده (أولاده) قدمهم كالأضحية بمجزرة كربلاء في سبيل الله لإتمام دينه وكمال نعمته، بل وحتى أنه جاء بنسائه ويعلم أنهن من بعده سيكونن سبايا لكنه أعطى لله كل شيء ويعلم بأن ملحمة الطف تُكتَم إعلامياً من دون سبي زينب (عليها السلام) فلم يكون للفداء وقعاً ولا أصداء قرع، فبذل في سبيل الله كل ما لديه لاعلاء كلمة الحق وزهق الظلم والجور فجازاه الله بشيعة ومحبين وموالين لا تحصيهم آلات حساب ولا تعدهم أرقام، قد وِجِرَّت بدواخلهم حرارة نيران الخيام فصعقوا من نيران حماوتها ليكونوا مهووسين بالعشق المباح.
كانوا حجيجاً مغرمين بكعبة العشق صريع عبراتهم ومسكب حسراتهم، طافوا حوله بلباس الحزن والعزاء والأسى بالسواد الفاحم لوثت لباسهم بأتربة الطرق أثناء المسير وهم يستذكرون سيدة الطف وما دهاها من آلامٍ وحسراتٍ ونكبات، وبلا أي مواساة بل ومُنِعَت حتى من البكاء، فأي رزية جرت في كربلاء بل وبأي ثلة جرى القضاء؟
هكذا بالدموع والعويل يتم الوداع الأخير بنظرة شاخصة ودمعة ساكبة وروح مولولة محسورة مكروبة، وبنفس متكلمة (هل يتسنى لنا لقاءً آخر جديد هل ستبتهل أعيننا بهذا الموقد النوارني الروحاني الحسيني مجدداً) ولا أحد يعلم الإجابة هل سيكتب له عمر مديد بتجديد العزاء أم أنه سينتهي أجله وينفد عمره، كانت دموعهم تتكلم بكل شيء وكأن مسيرهم أصبح عكسياً لأنهم لا يريدون اعطاء ظهورهم والرحيل بعيداً نحو بلادهم، كانوا يشعرون بوجود الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بينهم بالمآتم والعزاء لولدها السبط الشهيد الذبيح، وأنها تشاركهم اللطم والمواساة والبكاء، ففقيدها ليس كأي فقيد إنه حشاشة كبد النبي بكته السماوات والأرضين دماً عبيطاً حزناً عليه ولفاجعة مصابه الجلل.
بل أيضا بكته الدواب والهوام والوحوش في فلواتها والجبال والملائكة وكل خلق الجبار، مصابه المفجع لن يتكرر أبداً، إن الحسين (عليه السلام) قد خُلِطَ لحمه بدمه بعظمه من سحق الخيول الأعوجية لم يكن له جسم ليدفنه ولده الإمام زين العابدين (عليه السلام) بل جمع أوصال والده بحصيرة ودفنها، فأيُ فجيعة هذه يا مولاي، وأي تربة تربتك الطاهرة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصلاة مع الرب.
نعم إنها تربة تخضبت دماً حباً لله وفي سبيل الله ولرفع كلمة لا إله إلا الله على مر الأزمنة وتقاصي الفساق والمردة وجحدة الحق، إنها تربة تنضح دماً مع وقت مقتله الشريف فدمه لا يزال ينزف لهذا الوقت في جوف السماء والأرض وينادي الظليمة الظليمة كنداء فرسه الميمون عندما عاد وحيداً للخيام من غير فارسه وتقوده الدموع الدامية.
فرحم الله تلك الأصوات الإيمانية الملبية بنداء الحسين (عليه السلام) ورحم الله تلك العيون الذارفة دموع الحرقة والوله لسيد شباب أهل الجنة ورحم الله تلك الأيادي المنشغلة لخدمة زوار أبا الأحرار وتلبية متطلباتهم وحتى تلك الأيادي المرفوعة للدعاء لزواره ومحبيه بالسلامة وحسن العاقبة وقبول الأعمال.
فساعد الله قلب مولاتي زينب لم تلقى في طريقها مواسٍ لمصابها ولم تشهد من يساعدها على فجيعتها ويخفف من مأساتها فقائدة الطف كانت وحيدة كيف كان حالها وهي تنظر لأخيها نظرة الوداع الأخير بعد أربعين يوماً من الفراق وهم مقطعين إرباً إربا، فالسلام على جبل الصبر وراية الحق ومعدن العلم والرسالة ورحمة الله وبركاته.
اضافةتعليق
التعليقات