هي حكاية عمرها سبعة وخمسون عاماً؛ مليئة بالأحداث المختلفة في الزمان والمكان إلَّا أنها جميعها متزينة بالصبر والشجاعة، بلغت ذروة الصبر فيها في يوم أشبه بانقلاب الكون؛ يومٌ ودَّع العالم فيه النعمة التي انتثرت أشلائها تحت سنابك الخيول، ذلك اليوم الذي كان لجبل الصبر فيه أن يحمل كل الآلام ويكفل كل العيال من النساء والأطفال، اليوم الذي ترك في قلب زينب جمرة لن تخمد إلى الأبد.
ولكن...
توقُّد هذه الجمرة وسعيرها الذي أحرق العالم بآهات مخفية تحت أستار الحجاب والذي كان عنواناً لبنات الرسالة زادها تمسكاً بحجابها وعفافها الذي كان مُصاناً ولم يسقط رغم الفرار في البراري ورغم ألم السياط وجور السبا.
في ذلك اليوم.. العاشر من المحرم رفعت أنظارها تلك الحرة الأبية إلى سماء ربها ترمقها بنظرة مليئة بالرضا والإيمان بما قدَّر الله؛ وصوت نبضاتها وأنفاسها يملئ الأرجاء شوقاً لمن نام على أرض كربلاء مقطَّع الأشلاء مسلوب العمامة والرداء؛ في حينها عم المكان صوتُ صراخٍ رهيب لأطفالٍ مذعورين ثاكلين فاقدين الآباء والأخوة؛ أقدامهم تتخللها أشواك الصحراء وأياديهم الصغيرة متلفعة بنيران الخيام والمحامل؛ كل هذا وأكثر كان ذكرى مؤلمة مرَّت تحمل آهات الفقد والشوق لمن ثوى في أرض نينوى من غير عودة؛ لكافلِ خدرٍ ترك أذرع الوفاء ملقات بين الرمال، عيونها التي أتعبها البكاء وكاد أن يُطفِئ نور بصرها تدور على الجالسين عند فراش موتها علَّها ترى طيف كافلها ومن تكفَّل خدرها أو عساها تلمح شخص أبي الأحرار قائلاً: زينب.. ها أنا بقربكِ أحامي عنكِ يابقيَّة أمنا فاطمة، على حين غرة بدد هذه الأماني ملك الموت هاتفاً: هنا انتهت رحلة الصبر يا أم المصائب، قدَّر الله لكِ أن تموتي في شام الآلام بعيدةً عن قبور الأحِبَّة؛ لا أنتِ بين كافلكِ وابن أمكِ ولا أنتِ في أرض الغري بقرب علي ولاعند من ورثتي مصائبها.
هنا انتهت حكاية الصبر يابنت فاطمة؛ تلك الحكاية التي لم تسعها الحروف ولن تحوِها الكلمات، هنا تنتهي حكاية الشجاعة؛ الحكاية ذات السبعة والخمسين عاماً من الحزن والأسى، من الصبر والصمود ومن الشجاعة والعفة والحياء والحشمة، ومن ثم تنتقل إلى مثواها الأخير بعد أن مرت لحظات مريرة على دكة المغتسل بعد أن فزعت المُغَسِّلة قائلة: أهي مريضة؟! لِمَ هذا السواد على المتون؟!
ألا تعلمين أنه من جور السبا؛ من سياط أمية التي كانت تصبح وتمسي على هذا الجسم النحيل.
بعد كل هذه الرحلة التي ملأها الفقد والشوق نُقِلت سيدة الحجاب والعفاف إلى قبرها في شام المصائب بعد أن كانت أمنيتها الأخيرة عبّاساً يوسدها في لحدها، آهٍ يا شام الألم كُنتِ وما زلتِ جرحاً لا يندمل.
اضافةتعليق
التعليقات