في ليلة القدر الأولى وفي طريقي لحضرة المولى أبي عبد الله الحسين عليه السلام لاحظت عشرات الشباب في المقاهي، وعلى الأرصفة يتسامرون مع اللهو واللعب وتدخين الأراكيل، يعلو صياحهم وهرجهم ساهون غافلون!
تساءلت: هل يدركون أي ليلة هذه؟
إنها الليلة التي خاطب الله حبيبه المصطفى بصيغة استفهام تعظيمي: {وما أدراك ما ليلة القدر}؟
ما أعظمها من ليلة وهبها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله ولأمته كما ورد في الرواية: (إن الله وهبَ لأمّتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم).
هي الليلة التي تطوف بها الملائكة عليه، وعلى خليفته المعصوم من بعده تسلّم عليهم، وتضع بين أيديهم مقدّرات العباد لعام كامل .
هذه الموهبة العظيمة علينا أن لا نفرط بها، ونحسن استثمارها؛ لأنها خير من ألف شهر، والعابد فيها كمن عبد الله ألف شهر، فهي ليلة واحدة تضيف لنا أزمانا إضافية، وتوسّع دائرة أعمارنا المحدودة، ومع تكرارها كل عام فلنا أن نتخيل كم من الأعمار تمنحنا لننطلق في سيرنا التكاملي نحو المطلق.
ولأن مقدّراتنا وحوادث عامنا المقبل من حياة أو موت، وسعادة أو شقاء، ورزق أو حرمان، تقدّر في هذه الليلة؛ فعلينا أن نكون منتبهين ويقظين، وفي حالة ترقّب كامل، نضاعف من استعدادنا ولياقتنا لتلّقي المزيد من رحمة الله ولطفه وفيوضاته، وهذا السّر في استحباب إحياء الليلة بالعبادة إلى طلوع الفجر؛ ففي لحظات تقرير المصير ينبغي أن لا يكون الإنسان لاهيا غافلا؛ فلو تصورنا إننا نترقب في اليوم التالي قرارا يخص مستقبلنا؛ كوظيفة مهمة، أو نتيجة امتحان مصيري فلا شك إننا سنمضي ليلتنا في أرق، وسيسلبُ القلقُ النوم من بين جفوننا حتى الصباح، فكيف يجب أن نكون في ليلة تقدير مصائرنا لعام كامل؟
والأهم من ذلك إن ليلة القدر من الأوقات المخصوصة بالإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكما ذكرنا إن ليلة القدر من مواهب الله للنبي صلى الله عليه وآله، وللحجج من بعده، وهذا السر في صيغة الفعل المضارع {تنزّل}؛ فإذا كانت الملائكة تتنزّل على رسول الله صلى الله عليه وآله، فعلى من تتنزّل من بعده والليلة مستمرة كما ورد في الروايات؟
فقد سئل الإمام الباقر (عليه السلام) عما إذا كان يعرف ليلة القدر، قال:
(كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها)؟ .
فما يقدّر ليلة القدر ويدوّن من مقدّرات العباد في سجلات الغيب تنزل به الملائكة والروح لتضعه بين يدي صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف .
في ليلة القدر المباركة تتصل السماء بالأرض، ويتّحد عالما الغيب والشهادة في كيان الإمام وعبر وجوده المقدّس، ويكون الإمام في حالة استنفار قصوى من العبادة والنشاط الروحي، وأبوب السماء مفتوحة، وأفواج الملائكة تزدحم على سجادة صلاته، لذا علينا التأسي به في حالة الاستنفار، فقد نكون محظوظين فتُرفع أعمالنا مع أعماله، وتحظى بالقبول ببركة وجوده !
إنها ليلة الحب واللطف، والسلام؛ فالسلام هو عنوانها وهويتها، سلام تتبادله الملائكة فيما بينها، وسلام على الإمام المعصوم، وسلام على المؤمنين العاملين بطاعة الله الراغبين بقربه ورضاه، هذا السلام الذي يستمر حتى طلوع الفجر، ويفوق كل مواهب هذه الليلة .
تذكر الروايات إن الملائكة عندما نزلت على خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وبشّرته بالولد بدأت بالسلام عليه؛ {وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡ رُسُلُنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوا۟ سَلَـٰمࣰا}؛ فشعر بلذة ذلك السلام بما فاق فرحته بالبشارة؛ فأي لذة يمكن أن يشعر بها المؤمن وسلام الملائكة يغمره ويحيط بكيانه من الجهات كلها؟ فالملائكة يردون على الأرض أفواجا - بسبب كثرتهم - كما يرد الحجّاج أفواجا إلى بيت الله، ولو كشف عنا الغطاء لرأينا ما يخطف الأبصار، ويذهل العقول!.
إنها ليلة مفعمة بالخير والرحمة والسلام، سلام من نوع خاص يعيشه الإنسان مع نفسه، ومع الآخرين، فعليه أن يبتعد عن الملهيات كلها، وعن الخصومات والمشاحنات، والخوض فيما لا ينفع .
سلام يستمر حتى الفجر ليبدأ الإنسان يوما جديدا بكيان جديد، وليصبح إنسانا آخر صاغته الليلة الجليلة بعد أن غمرته بجمالها وجلالها، إنسان كله خير ومحبة وسلام .
اضافةتعليق
التعليقات