في زمن المال والسلطة واتباع الشهوات وانحراف العقيدة كان هناك الرق والعبيد، يتاجرون بهم ويستعبدونهم هكذا عرضت الجاهلية علينا ابطالها، وخلد التاريخ اسماء العبيد الذين عاصروا الاسياد على اختلاف المكانة فمنهم من عرف بالخيانة ومنهم من قتل سيده وآخر كان أمينا ومخلصا، وقد عرفت كل الحضارات والأمم السابقة على الإسلام ظاهرة الاستعباد للآخرين على أوسع نطاق ممكن فالرق كان موجودًا لدى الفراعنة، إذ كان الملوك والكهنة يتخذون أسرى الحرب عبيدًا لهم، يستخدمونهم فيما تحتاج إليه الدولة الفرعونية من أعمال كشق الترع وبناء الجسور والمعابد والأهرامات.
وكذا لدى الآشوريين وقد كانت قصورهم مليئة بالعبيد والجواري للخدمة ومن أطرف الوثائق والعقود التي عُثر عليها وتعود إلى عهد الملك نبوخذ نصر، تلك العقود المتصلة بالعبيد، ولم يختلف الحال لدى العرب قبل الإسلام عن غيرهم من الأمم في ميدان الرق. فقد كان مألوفًا أن تتخذ القبائل المنتصرة من أطفال ونساء القبائل المهزومة عبيدًا وجواري.
وكان بعض مشاهير مكة مثل عبد الله بن جدعان من تجار الرقيق، وتذكر كتب التاريخ أن عددًا من مشاهير الصحابة كانوا عبيدًا قبل الإسلام، منهم زيد بن حارثة الذي اختطف وهو صغير، وباعه الخاطفون في سوق عكاظ حيث اشتراه أحد أقارب السيدة خديجة (عليها السلام) وكذلك اختطف بعض قطاع الطرق سلمان الفارسي عنه أثناء رحلته إلى الشام، وباعوه لبعض يهود يثرب قبل هجرة النبي صلى الله عليه واله وسلم إليها، وكان بلال بن رباح وعمار بن ياسر وذويهما عبيدًا بمكة المكرمة قبل الإسلام، وتعرضوا لتعذيب مروّع من سادتهم لإجبارهم على ترك الإسلام،وكانت "سميّة" أم عمَّار رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، إذ قتلها أبو جهل لعنه الله بطعنة في قلبها لرفضها الارتداد عن الدين الاسلامي.
وكان الرقيق إذا أخطأ عوقب بالجلد بالسوط وكلف القيام بطحن الحبوب على الرحى، وإذا هرب كوى على جبهته بالحديد المحمي في النار، حتى جاء المشرع الاسلامي وانقذهم من الظلمات وجعل لهم قانونا ودستورا يحميهم، ويوفر لهم بيئة سليمة، حيث شجع النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) أتباعه على عتق العبيد حتى لو اضطروا لشرائهم أولاً، وأمر (صلى الله عليه واله وسلم) أصحابه في مناسبات عديدة أن يحرروا عددا كبيرا من العبيد، واستمر الحال في عتق العبيد ومعالجة العنف الذي يتعرضون اليه، ولم ينته زمن العبيد والرق وهناك الكثير من الكفارات وغيرها التي تحض على تحرير الرقاب من رق العبودية.
الدين الاسلامي لم يعامل العبيد اقل معاملة دون غيره وقد اثبت القرآن الكريم الآيات التي انصفت الجميع من دون تحيز او عنصرية، فلا فرق بين الابيض والاسود وبين اعربي واعجمي إلا بالتقوى، فكم اعربي لكنه بعيد عن الاسلام واعجمي قريب بالأيمان، وفي الوقت نفسه هناك في صفحات التاريخ عبيد خلدوا اسمائهم في التاريخ بشرف وقوة، على عكس اسيادهم الذين خذلوا ونافقوا فرحلوا الى مزبلة التاريخ من دون اي ذكر او سيرة وعندما يذكرون يذكر اسمهم باللعن.
ومن جملة العبيد الذين حولوا معدنهم من فضة الى ذهب بفعالهم الحسنة وشاركوا في كتابة سطور الواقعة بملاحم التضحية والجهاد، اتحدث عن (جون) الذي كان يخدم الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري (رضوان الله عليه) وبعدها انتقل الى خدمة الامام الحسين عليه السلام ومع بقية رفاقه الى كربلاء، وتحمل معه عناء الطريق.
ومع مجريات الاحداث في واقعة الطف حيث شارك مع اصحاب الحسين، بكل تواضع وخشوع يستأذنه للنزول الى ميدان القتال، إلا ان الامام أراد أن يرده ردا اخلاقيا لطيفا لكي لا يجرح شعوره فقال له بكل حب وحنان وتقدير(( يا جون إنما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في إذن مني))، أو ((فلا تبتلِ بطريقنا))، وكان القصد من الكلام انك اتيت معنا بصحة والحياة بالعيش الكريم، اما الان فانة الموت الزؤام الذي لابد منه فأين ترمي بنفسك، ولعلك خجلت أو استحيت من موقفك فأنا أعذرك وأقدر لك هذا الموقف ولكن أنت في حل من ذلك كله فأذهب وعش وحياتك كما تريد، فوقع جون على قدمي الامام القائد يقبلها وهو يقول: يا بن رسول الله أنا في الرخاء الحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم، والله إن ريحي لنتن وحسبي للئيم، ولوني لاسود ، فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض لوني، لا والله لن أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الاسود مع دمائكم.
موقف عظيم من عبد والاعظم هو قبوله وانضمامه الى صفوف الجيش، ويسرع الى الموت بكامل عقله وهو يترجح ملبيا نداء الشهادة، فعندما سمع سيد الشهداء الحسين كلامه، أذن له بالنزول الى المعركة فسطر ملحمته بحروف من نور، وكتب وثيقة وفائه وصدقه واخلاصه بدمه الطاهر الزكي.
جون في سطور التاريخ
جَون بن حَوِيّ، كان عبداً مملوكاً اشتراه علي بن أبي طالب ثمّ وَهَبه لأبي ذرّ الغِفاريّ، وبعد وفاة هذا الصحابيّ رجع جَون إلى الحسن بن علي. قال الفتّونيّ: «كان جون مُنضمّاً إلى أهل البيت عليهم السّلام بعد أبي ذرّ رضي الله عنه، فكان مع الحسن بن عليّ عليهما السّلام، ثمّ انضمّ إلى الحسين عليه السّلام وصَحِبَه في سفره إلى مكّة ثمّ إلى العراق». هو كان من شهداء كربلاء. مولى أبي ذر الغفاري وكان عبداً أسود. منعه الحسين في يوم عاشوراء عن القتال، ولكنه قال للإمام: والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.
نسبه
اسمه جون بن حوي بن قتادة بن الأعور بن ساعدة بن عوف بن كعب بن حوي. وقد ذُكر في المصادر المختلفة بالأسماء التالية: جوين، جون بن حويّ، جون بن حريّ، جوين أبي مالك، وحويّ.
جَون بن حَوِيّ، كان عبداً مملوكاً اشتراه علي بن أبي طالب ثمّ وَهَبه لأبي ذرّ الغِفاريّ، وبعد وفاة هذا الصحابيّ رجع جَون إلى الحسن بن علي، وكان عبداً أسود.
برز جون يستأذن الحسين عليه السّلام، فأذِن له، فحمَلَ جون وهو يرتجز ويقول:
كيف تَرى الفُجّارُ ضَربَ الأسْودِ بالمـشـرفـيِّ القـاطعِ المُـهنَّدِ
أحمـي الخيـارَ مِن بنـي محمّدِ أذُبُّ عنـهم بـاللـسـانِ واليـدِ
أرجو بذاك الفـوزَ عندَ المـوردِ مِـن الإلهِ الـواحدِ المـوحَّدِ
فقَتَل جونٌ خمسةً وعشرين رجلاً من الأعداء، حتّى تعطّفوا عليه فقتلوه رحمه الله، فجاءه الإمام الحسين عليه السّلام ووقف عليه قائلاً: «اللهمّ بَيِّضْ وجهَه، وطَيِّبْ ريحَه، واحشُرْه مع محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وعَرِّفْ بينه وبين آل محمّد عليهم السّلام» فكل من كان يمر بالمعركة كان يشم منه رائحة طيبة ازكى من المسك والعنبر.
قبره وزيارته
دفن مع بقية الأنصار عند رجل الامام الحسين عليه السلام، وقد ذكره المهدي في زيارة الناحية المقدسة:
«اَلسَّلَامُ عَلَى جَوْنٍ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ» وهو من الشهداء الذين وقف عليهم الحسين، ودعا له بالخير.
هكذا هو التوفيق الالهي الذي جعل من جون، العبد النتن صاحب الموقف الخالد ذو رائحة طيبة وذكر عطر في صفحة كربلاء حتى بقي ليومنا هذا فسلام الله عليه.
اضافةتعليق
التعليقات