تضيء شاشة الهاتف المحمول خلال الليل بلا توقف، ومع أن إضاءته خافتة إلى الحد الأدنى، إلا أن يقظته لا تزال مع ذلك نشطة. فهو يقلق نوم صاحبه، الذي يجهل كل شيء عن عمل الخلايا الحساسة للضوء على شبكية عينيه. فهل هو يدري أصلاً بوجودها؟ إذ إنها هي التي ترسل، إلى نواة التأقلم مع الضوء في الغدة النخامية لدماغه، الأمر بالاستيقاظ حيث تخلط ما بين الضوء الأزرق القوي لشاشة المحمول مع ضوء النهار. وبالتالي تختل ساعة النائم الداخلية، ويصبح نومه مضطرباً. وهنا تجتاح هدوء نومه رغبات لا تقاوم، وهي الرغبات ذاتها التي تنهش نهاراته، وحياته، وعمله، وعطلاته، وصداقاته، وأحبابه، وأفكاره وصلواته.
تتمثل أولى هذه الرغبات، وأهمها وأكثرها ثباتاً في المسارعة إلى هذا الهاتف ذاته الذي لا ينطفئ أبداً وكلياً. وهو يقوم بذلك صراحة أو خلسة، تبعاً لدرجة الشعور بالذنب تجاه الأشخاص الذين يحيطون به. ويطلق بنقرة من سبابته المرتعشة سلسلة الاتصال القلق، بدءاً بالرسائل المكتوبة أو السمعية، متحولاً بسرعة إلى وتسلسل الأحداث السريعة على الشاشة، يليها التقارير. ويتحول بعدها إلى حشد الواتساب، وتيليغرام، حابساً أنفاسه خوفاً أن يفوته ما كان يجب عليه معرفته أولاً، وينتقل من ثم ببطء إلى إنستغرام وفيسبوك، وينتهي بتنبيهات الأخبار والبريد الإلكتروني. وينتابه الشعور، عند انتهاء هذه الجولة، المشابه لشعور المصاب بداء النهم أو الشره (Boulimique) الذي يلتهم قطعة كبيرة من البيتزا دفعة واحدة، لا يعرف للشبع معنى، مع شعور غامض بالذنب، ويعاود من ثم سيرته الأولى على الدوام. وذلك مرة كل دقيقتين، وثلاثون مرة في كل ساعة يقظة، ومرة كل ثلاث ساعات خلال النوم، أي ما مجموعه 542 مرة في كل يوم 198000 مرة في السنة.
تهديد الثلاثون دقيقة
أوليست هذه حالنا جميعاً في نهاية المطاف؟، يضع باحثون من جامعة بنسلفانيا تشخيصاً يتخذ شكل التوصية التالية:
تتعرض صحتنا النفسية لتهديد إذا تجاوزنا ثلاثين دقيقة من مشاهدة الشبكات الاجتماعية. فالمئة وثلاثة وأربعون طالباً الذين قبلوا وضع عاداتهم الرقمية قيد التجربة خلال فصلين دراسيين، وخضعوا من ثم لاختبارات نفسية، لم يفعلوا سوى توكيد ما نتوجس منه جميعاً. أما فيما يخصني شخصياً، فلقد تجاوزت منذ زمن بعيد مدة الثلاثين دقيقة (المذكورة في الدراسة).
يمتص وقت الشاشة الوجود. تروي مقالة في هافينغتون بوست الأميركية في نهاية العام 2013 قصة كايسي الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعاً والتي تقطن في نيوجيرسي. "ما الذي يجري حقاً على آيفون لمراهقة"، وهي رواية عبدة واعية لسجنها: (أستيقظ صباحاً وأذهب رأساً إلى فيسبوك، وذلك ليس لأنني أود ذلك، وإنما لأنه يتعين علي القيام به، وكأنني مرغمة على فعله، وكان هناك من يرغمني على ذلك. لا أدري لماذا، أنا بحاجة إلى ذلك. لقد سلب مني فيسبوك حياتي). وتكرس كايسي وجودها لتغذية ذلك الوحش المتمثل بـأصدقائها، الـ 580 على إنستغرام وأصدقائها، الـ 1110 على فيسبوك، بغية استقطاب المزيد من اللايكات الممكنة على كل من إسهاماتها، وتعيش في حالة قلق لفكرة أن يقل عدد اللايكات عن 100، ويجتاحها هم أن تكون قد أنتجت أقل من بعض أصدقائها. تعج الاستشارات الطبية بقصص المراهقين هذه، المقطوعين عن طفولتهم من خلال الشاشات.
ما هو أثر زيغارنيك؟
وضعت عالمة النفس الروسية بلوما زيغارنيك (1901-1988)، ومنذ العام 1929، الإطار النظري لاكتمال إنجاز المهام، والمعروف بتسمية «أثر زيغارنيك». ويتمثل الأمر في اعتبار جملة أفعال على أنها مترابطة، ويتعين أن يتسلسل تنفيذها من دون توقف، وهو ما يولد عدم الاكتمال، دافعاً الشخص إلى ألاّ يشعر بالراحة والرضى إلا بعد نهاية سلسلة الأفعال متناسياً حرية اختياره خلال مختلف المراحل. وليس من الهام ما هي قيمة كل فعل، إذ لا شعور بالخلاص إلا بعد الانتهاء من إنجاز مجمل المهام المطروحة.
تشتغل منصة الفيديو من خلال الاشتراك بموقع نتفليكس للمسلسلات والأفلام بالطريقة ذاتها. إذ تهدف برمجة قنوات التلفزيون لسلسلة من الحلقات بمعدل حلقة في الأسبوع إلى خلق نوع من الروتين، أو العادة. ويتلخص الأمر في إجراء جرعات جذابة: إذ ترضي المشاهد بشكل يدفعه إلى العودة إلى المسلسل مع توقف كل حلقة عند عقدة تبقيه على تعطشه لمعرفة الحل، وبحيث لا ينسى العودة إلى مشاهدة الحلقة التالية من المسلسل.
يجرى هذا النوع من المسلسلات على نتفليكس عادة، إنما هندسة الموقع، وعلى غرار بعض المسلسلات المكتوبة خصيصاً لهذه المنصة، تقوم على نظرية الاكتمال المبينة أعلاه، لدفع المشاهد إلى العبور من العادة إلى الإدمان. وليس المهم هنا نوعية المسلسل وقيمته، وإنما خلق حالة من الإحباط والتوقع المرتبطة بالمشاهدة غير المكتملة. يرمي تسلسل عرض الفيديوهات إلى الحيلولة دون قطع الاعتماد على المشاهدة من خلال إغراءات أخرى. وتتعزز هذه الآلية من خلال إمكانية التشغيل الذاتي التي تتيح مشاهدة تسلسل الحلقات من دون الحاجة إلى القيام بحركة ما أو التعبير عن إرادة المشاهدة.
تستدعي هذه الحالة نظريات تولي الأمور نيابة عن الشخص بما يجعله معتمداً على بيئة تريحه من هم اتخاذ القرار. وهنا يترك المشاهد ذاته تنقاد سلبياً إلى عالم فائق الجاذبية والإثارة لاستجاباته. وسرعان ما يصبح هذا الارتياح المحبب في البداية، ضرورياً، ويتغلب من ثم على مركز الضبط والقرار في الدماغ وتشكل نظرية التجربة الفضلي (نظرية الاستغراق) التي طورها عالم النفس الكرواتي (مايهالي تشيكزنتمايهالي) أداة أخرى من أدوات علم النفس السلوكي التي تستخدمها المنصات الرقمية، وخصوصاً تلك منها التي تعرض ألعاباً جد بسيطة ظاهرياً (من مثل كاندي كراش). إذ تعرض الخوارزميات (التصميم الرياضي للبرنامج الرقمي) تجربة مختلفة لكل لاعب.
وليس المطلوب هنا تكييف مستوى الصعوبة بشكل دقيق، وبحيث يتوافق مع مستوى قدرة اللاعب بالضبط. فهي ليست سهلة جداً، ولا هي صعبة جداً بحيث يصبح الانخراط في اللعبة شبه آلي، ما يوفر الرضى والارتياح الشديدين بحيث ينتزع اللاعب من بيئته المباشرة ومختلف همومها. وعلى الرغم من الإخراج الرياضي، مع نظام نقاط ودرجات ورتب، ولكننا لسنا هنا بصدد منافسة وتفوق على الذات أو الآخرين، وإنما بصدد توليد مشاعر الاندماج في الشاشة التي ترعى اللاعب.
وفي نهاية المطاف يبقى جحيمنا اليومي هو نحن ذاتنا إذ من دون استراحة ممكنة، فإننا نستغرق في السهر من دون توقف ونحن مشبعون بالدوبامين. يعلي الاستنفار الدائم، واستغلال سلبيتنا، وتملق نرجسيتنا، وتعهدنا بواسطة الإعلان الملح عما سيأتي، كلنا نريد حرية الاختيار، ونشوة السيطرة على المعلومات والإشارات إلا أن واقعية الاعتماد تتربص بنا.
نريد التحرر والانطلاق التي (لن تسبب أي ضرر)، تبعاً للشعار التاريخي المرفوع من قبل غوغل، فقد طورت تقنيات وضعتنا على طريق النكوص، ولا تتيح لنا أن نخرج من التجربة من دون معاناة ألم الفراق. ويدعي بعض قادتها (غوغل) قائلين: «إننا لم نتقصد ذلك». إلا أن الوقائع تثبت العكس.
اضافةتعليق
التعليقات