ما أكثر الذين يشكون ضيق ذات اليد في أيامنا؛ لأن أبواب العمل والارتزاق سدت في وجوههم!
تصور نفسك واحداً من الذين كانوا يعملون في مؤسسة واستغنت الإدارة عن خدماتهم لسبب ما، فإذا أنت عاطل عن العمل، ولا أمل لك بالالتحاق بمؤسسة أخرى لبلوغك سناً معينة؛ أما المال الذي ادخرته من عملك السابق فمبلغ جد متواضع... فماذا تصنع للخروج من المأزق؟
لقد واجه "جورج بيكر" ، المعضلة نفسها عقيب انتهاء الحرب العالمية. كان ضابطاً في فرقة الهندسة، فلما وضعت الحرب أوزارها عاد إلى وظيفته في نظارة الأشغال العامة، ولكن الدولة استغنت عن خدماته بعد ثمانية عشر شهراً، فكانت الصدمة قوية، لأن جورج بيكر لم يدخر ثروة وهو في الوظيفة، مع هذا لم يدع لليأس سبيلاً إلى نفسه، بل استطاع الخروج من المأزق بفضل مخيلته.
وإليك ما فعله الكبتن بيكر:
لم يضيع صاحبنا دقيقة من وقته، فمضى إلى مصلحة الأحراج في نظارة الزراعة واستأجر منها قطعة أرض صغيرة في المنطقة الجبلية، تفصلها عن المدينة مسافة أربعين ميلاً، وبعد يومين أقام خيمته على الأرض المستأجرة، وفي نيته أن يعرض خدماته كدليل ومرشد للذين يرتادون تلك الناحية، دون أن يصرفه هذا العمل عن استنباط وسائل أخرى للارتزاق. وما وافى الخريف حتى شرع بيكر في بناء كوخ من حجارة الطوب لأن نتائج التجربة جاءت أكثر من مشجعة. وبعد ست سنوات خرج من عزلته وفي حوزته بضعة عشر ألفا من الدولارات مختزناً لشيخوخته ذكريات أشهى ما تكون الذكريات.
لك أن تتساءل: كيف استطاع الكبتن بيكر جني ثروته، وهل جمعها من عمله كدليل؟ إليك الجواب، وقد أعطاه الكبتن بنفسه للذين وجهوا إليه السؤال: "اعتدت وأنا في الوظيفة قبض مرتبي في آخر كل شهر، وساد في ذهني مع الأيام أن المرء لا يسعه كسب معيشته بطريقة أخرى. فلما انفككت عن الوظيفة أعملت مخيلتي في استنباط وسائل الارتزاق، وتزاحمت المشروعات في رأسي بعد ثلاثة أيام من التفكير، فاخترت منها الأجدى والأصلح.
"لدى وصولي إلى معتزلي في الجبل لاحظت أن السياح المقبلين من الشرق يتهيبون قيادة سياراتهم على الطرق الجبلية الضيقة، ولما كنت سائقا ماهراً فقد عرضت خدماتي عليهم لقاء ريال واحد عن كل ساعة أقضيها في العمل، فوافقوا بجذل، لأن مشروعي، أتاح لهم، فضلاً عن الطمأنينة، أن ينزهوا أبصارهم في منطلق الطبيعة الفسيح.
"وولد نجاح مشروعي الأول في مخيلتي مشروعاً آخر. فقلت في نفسي: لم لا أتولى إرشاد هواة الصيد والقنص الذين يجازفون بتسلق المرتفعات؟ ولقاء خمسين دولاراً في الأسبوع اعتمدني ستة من الصيادين مرشدأ لهم ودليلا".
"وتتالت المشروعات، فقد لاحظت أن الأفراد القلائل الذين بنوا أكواخاً في الجبل لم يستدروا خيرات الأرض المعطاء، فأنشأت حول كوخي حديقة وبعد أشهر أغناني إنتاجها عن شراء الحبوب والبقول والخضار. وصنعت من خشب الأشجار المحيطة بكوخي مقاعد وخزائن استثارت إعجاب جيراني فأوحى إلي هذا الإعجاب فكرة جديدة: لم لا أسلخ أشهر الشتاء في صنع المقاعد الخشبية وأبيع إنتاجي من الراغبين؟ وقد در علي هذا المشروع ربحاً لا بأس به.
وفي الربيع رحت أجمع النباتات النادرة وأستخرج منها عقاقير نافعة، فكان سكان المدن والقرى يفدون إلى كوخي لشراء العلاج السحري. ولما تجمع لدي عدد كاف من جلود الحيوانات التي كان الصيادون يظفرون بها، بعتها من تجار الجلود والفراء؛ واكتشفت خلال تجوالي في الحقول والأحراج بحثاً عن النباتات النادرة نباتاً له رائحة التبغ ونكهته، فصنعت منه لفائف وقدمت منها إلى السياح المقبلين من الشرق فانتشوا برائحتها وحملوا منها إلى ولاياتهم، وسرعان ما تلقيت عشرات الطلبات من اثني عشرة ولاية، وبلغ ربحي من هذه الصناعة في ستة أشهر أربعة آلاف دولار.
"لقد استخرجت مما توقع لي بعد تركي الوظيفة درسًا قيماً: يمكن للمرء أن يتدبر شؤونه وأمر معاشه حيثما وجد إن هو عرف كيف يعمل مخيلته" .
وجدير بالذكر أن الكبتن بيكر ترك معتزله في الجبل وهو من أرباب الثراء، وهو اليوم لا يأتي عملاً سوى الرسم، وقد عرفت منه أنه يبيع لوحاته ويشتري بثمنها سجاداً شرقياً، وفي أسبوع معين من كل سنة يقيم في منزله الأنيق معرضاً للسجاد الشرقي فيقبل الناس على الشراء ويجني من ذلك أرباحًا طائلة.
رب قائل إن إعمال المخيلة من شأنه إرهاق الذهن وتقصير الأجل؛ إن الواقع يدحض هذا الزعم. فالرجال الذين تضطرهم حرفتهم لإعمال المخيلة يعمرون أكثر من سواهم. فمتوسط عمر الشعراء ست وسبعون سنة، ومتوسط عمر المؤرخين ثلاث وسبعون والفلاسفة خمس وستون. ألم يعش تولستوي أربعاً وثمانين سنة، وغوته ثلاثاً وثمانين، وفكتور هوغو ثلاثاً وتسعين ، وميكال أنج تسعاً وثمانين؟
ثق أن من يعمل مخيلته ويفتح عينيه جيداً، يمسك الثروة من قرنيها ويرغم الحظ على السير في ركابه كيفما سار وأنى وجد.
أنا لا أهيب بك إلى التفكير بما لا طاقة لك على تحقيقه. ولكني أنصحك بالتوقف مليـاً عند كل فكرة تمر بذهنك، وألا تذهب بعيداً في البحث عن الأفكار فهي ماثلة أمامك ويكفي أن تفتح عينيك. أعرف صديقاً من أرباب الصناعة، يطلع كل عام بمشروع جديد وهو يملك اليوم ستة مشروعات ناجحة. ولما سألته ما هو سر نجاحه، قال إنه يخلو بنفسه ربع ساعة مساء كل يوم لغربلة الأفكار التي تكون قد مرت بذهنه في بحر النهار، ثم يختار الفكرة التي تبدو له مفيدة، ولكنه لا ينفذها في الحال، بل يدعها تختمر في رأسه أياماً، فإذا لم يغير رأيه فيها، تكون صالحة للتنفيذ.
وإليك أخيراً هذه النصائح الخمس:
1 - استعرض في مخيلتك عندما تأوي إلى فراشك الأفكار التي مرت بذهنك في بحر النهار.
2 – دع مخيلتك تنشط، ولا تحاول كبح جماحها.
3 - إذا راقتك فكرة، دعها تختمر في رأسك أيتاماً ليتسنى لك تقدير قيمتها الحقيقية.
4- غربل أفكارك بتجرد الناقد النزيه.
5 – إذا أعجبتك فكرة تشبث بها ولا تتأثر برأي الآخرين.
اضافةتعليق
التعليقات