هل يُخلق الفن من المعاناة أم يخلقها؟
قرأت مؤخراً أن حياة أكثر الفنانين شهرة على مستوى الكتابة والرسم على وجه الخصوص على مر التاريخ هم أسوأهم على الإطلاق في الحياة الإجتماعية والعائلية بل لم تكن لديهم حياة حقيقية كسائر البشر .
فلنأخذ جولة في حياة أشهر الأدباء والرسامين من الغرب:
الرسام الهولندي فان كوخ ( 1853- 1890 ) الذي عانى من نوبات متكررة من المرض العقلي حتى وصلت به إحدى الحالات إلى قطع جزء من أذنه كما عانى من نوبات صرع ونوبات نفسية حادة جداً وقد مات عن عمر السابعة والثلاثين عاماً منتحراً وآخر عبارة قالها (إن الحزن يدوم للأبد) بعد حياة اجتماعية وعائلية فاشلة وانجازات فنية يُحتفى بها. فلو نظرنا إلى لوحات فان كوخ المذهلة ببساطتها سنبقى نتساءل كيف أبدع كل هذا؟
أما تشارلز ديكنز ( 18812 – 18870) روائي وناقد اجتماعي وكاتب إنكليزي ويُعد بإجماع النقاد من أعظم الروائيين الإنكليز في العصر الفيكتوري. تميَّز أسلوبه بالدُّعابة البارعة، والسخرية اللاذعة. صوَّر جانباً من حياة الفقراء بعد أن عاش طفولة بائسة جداً وبالتالي تركت انطباعات نفسية عميقة على مؤلفاته الأدبية التي من أشهرها رواية (أوليفر توست) التي قدم من خلالها حياة الأطفال الفقراء وما يواجهوه من المصاعب واستطاع أن يسلط الضوء على كم البؤس الذي يحيا به الفقراء في ذلك الوقت تحديداً وفي كل مكان وزمان إجمالاً. فكانت حياته الأدبية زاخرة بالنجاحات والشهرة ..
لكنه وللأسف أثبت نفسه كزوج سيء ووالد مهمل لأبنائه حتى كتبت ابنته ذات مرة (لا شيء يفوق بؤس وتعاسة منزلنا) في الوقت الذي كان فيه ديكنز يؤلف روايات لا مثيل لها عن الحب والدفء والسعادة الأسرية .
إذاً هل كان الأدب بالنسبة لديكنز أهم من البشر؟؟ وهذا السؤال لابد أن نطرحه أيضاً على الكاتب الأمريكي إرنست همنجواي فهو مثال حي على صفحات أدبه الناجح وحياته الأسرية الفاشلة والتعيسة ..
لكن لا أحد لديه جواب لهذا السؤال.. فهو من الأسئلة العقيمة لأن من أسوأ الصفات القاسية في كونية الفن الملفت، المميز والخارج عن صندوق عقول البشر العاديين هو طبيعته القاسية بأن يتطلب من ممارسيه استغراقاً تاماً في ذواتهم لدرجة تجلعهم يبدون لا إنسانيين في كثير من الأحيان .
ولأن الفن العظيم يتطلب أيضاً مستويات عالية من التركيز على أدق التفاصيل والإلتزام المستمر وتكريس الروح والذات والتفكير حتى يصل لدرجات عالية من الأنانية وهذا ما يجعل الفنان شخصاً له قانونه الخاص ومنظوره من زاوية غالباً ما يغفل عنها الأشخاص العاديين.
كأن يكون الفن نقمة تسرق قدرة المبدع على العيش حياة هانئة ليهنأ بها فنه بدلاً عنه.. وربما قد يكون الفن هو الكذبة التي تجعلنا نكتشف الحقائق كما قال بيكاسو.. واحتمال أن يكون نعمة للأشخاص المالكين للموهبة الحقيقية والباحثين عن الشهرة في ذات الوقت فيوظفون هذه النعمة كي تحقق هذه الرغبة .
ولابد أن نشيد بالذكر أن ملحمة كلكامش التي تُعد من أشهر آداب بلاد الرافدين والمكونة من آلاف الأبيات ناقشت قضية الخلود فكان نِتاجها الأخير أن الإنسان يُخلد بترك إحدى شيئين أحدهما الأثر الطيب بين الناس.
والثاني هو الفن والابداع فهو من أساسيات خلود اسم الانسان وأفكاره وحياته من خلال ما تركه للأجيال القادمة من أعمال فنية بمختلف أنواعها اللامحدودة .
ختاماً هناك عبارة استوقفتني ذات مرة (المحظوظ مَن اكتشف موهبته والذكي من طورها والمبدع مَن علمها والعبقري من اكتسب منها) ترى أنت أي منهم.
هل اكتشفتها؟
أم هي قيد التطوير؟
أم أنت تُزكيها بتعليم الآخرين بها؟
وربما قد بدأت بالإكتساب منها؟
ولكن مازال السؤال المحير قائماً.. هل كل مَن اكتشف موهبته محظوظ بها أم إنه سيعاني منها وستصبح نقمة عليه !
مازلت الفرصة قائمة حتى الآن لتفعل كل هذا ولتجيب على هذه الأسئلة بينك وبين نفسك وخير دليل على أنها قائمة هو أنك الآن تجر أنفاسك وتقرأ هذا المقال.
تأمل في نفسك وكيف خلقك الله.. تمحص في أصابعك.. لابد لك أن تقدم شيئاً وتصنع بها شيئاً إن لم يكن للعالم أجمع فـعلى الأقل لعائلتك أحفادك كأن يكون قطعة من صنع يدك وشاح من الصوف يدفأ قلب أطفالك قبل أن يدفأهم من البرد.. لوحة تتغنى بجمال موهبتك.. قصيدة يقرأها أحد أولادك حين يكون شاباً فينبهر بأبويه.. وربما هذا الشيء البسيط يمكن أن يفتح لأبنائك الطريق لاكتشاف مواهبهم .
الله رزقنا من النعم مالا يمكن وصفه فلنحاول على الأقل بذل مجهود لصعود الخطوة الأولى وهي أن تكتشف موهبتك.. وبقية الخطوات ستأتي تباعاً لها.. ابذل قليلاً من المجهود ..
مَن يدري قد تكون قباني هذا العصر وربما دافنشي وقد يكون لك فن خاص بك تضيء به العالم وتزيده جمالاً.
حاول لم يفت الأوان، مازالت الفرصة قائمة .
اضافةتعليق
التعليقات