كل شيئ هنا يختلف.. الستائر الساكنة، الزوايا الهادئة، الكراسي الرشيقة.. كل ما في المكان ينبض و كأنه يستدعي الحياة، و كأنه سيتحضر للبهجة بكل شرف و شغف، فهي على كل حال عيادة لتضميد الجروح الداخلية، تلك التي نخفيها عن الجميع خشية الفضيحة و خدش قالبنا الخارجي..
سأدخل.. سأكلمه و اقول له كل شيئ، سأخبره بكل الحكايات التي أحنت لي ظهري بثقلها و اصفرّ لساني من مرارتها!
اجلس الآن امام شخص لا أعرفه، كيف سأروي له كل معاناتي بل حتى جزء بسيط منها؟
_تفضل يا علي.. ما هي مشكلتك؟!
_اممم.. دكتور انا.. انا لا اعلم كيف ابتدئ..
و هل أتيت لتلقي خطاباً؟ لا تقلق و قل مم تعاني فقط دون مقدّمات!
كنتُ صغيراً حينها، صغير جداً أعتقد بأنني لم اكمل ربيعي السابع من عمري، في ذاك اليوم المشمس في ساحة المدرسة كنت العب بكرة قدمي المفضلة.. في تلك الأثناء أخذها مني أحدهم و هرب بسرعة غادرة، لم استطع اللحاق به و إسترجاع اثمن العابي، لم استطع بأن اعبر عن مدى غضبي و استيائي و وحدتي التي لم يساندني بها احد.. كنت صغيراً فقط!
حين اخبرت امي عند عودتي للمنزل قالت لا بأس فليأخذها منك الأمر لا يستحق حزنك، فهي ليست الا مجرد كرة فقط!
و لكنها لم تكن بالنسبة لي مجرد شيئ يُعوض بآخر، كنت اُحبها بل كان بيننا صلة وفاء مُحكمة!
إبتلعت بكائي، بقيت صرختي عالقة بحنجرتي و أخنقَتها امي اكثر حين قالت "هي مجرد كرة فقط"
لماذا لم تقل لي حينها حافظ على اشيائك في المرة القادمة.. لماذا لم تقل لي إنتبه و واجه من يسرق فرحتك من يدفن ضحكتك، لماذا لم تدعني اعبّر عن المي حينها؟!
مع تراكم تلك المواقف يا دكتور تلاشت رغبتي في الأشياء و الاشخاص و الحياة..
لم اعد امارس اموري بشغف، تعبت من جمود حياتي، من حزن صمتي.. ساعدني ارجوك!
_انت لا تبوح بما في داخلك يا علي.. قل لي كيف سترتاح؟!
_ولكن.. لم اعتد على ذلك ابداً.. فكلما كنت اتألم او احزن من امر ما كانوا يقولون لي لا بأس لا تبكِ.. او تناسى ما احزنك.. او لا تغضب لا تزعل.. لم اعتد على فضفضة مشاعري، داخلي مزدحم من الحكايات التي ترتطم ببعضها دون راحة، لا مجال لمساحة بيضاء ليحوزها السلام و الطمأنينة.. ماذا افعل!
_لا داعي لقلقك، فمعظم البشر يكبتون المشاعر لأنهم لا يجيدون الفضفضة باللسان و لكن لديك طرق اخرى..
_ما هي يا دكتور؟!
_اهمها ان تكتب ما يغضبك بورقة بيضاء، اكتب كل تفاصيل ما احزنك، كل آلامك، كل ذكرياتك التعيسة و من ثم احرقها و دع رمادها يتلاشى في الهواء.. سترتاح، ستولد من جديد..
المهم في الأمر هو ان تبوح حتى و إن كان بوحك صامتاً..
اضافةتعليق
التعليقات