تَمضي الحياة دون توقف في دائرةٍ لا أدري أنقودها أم تقودنا، وتُسرع بنا الخُطى نحو النّهاية.. نحو الموتْ، حيث النهاية الحتْمية لكلّ واحدٍ مِنّا.
يأتي الموت فجأةً في صورةٍ موجعة يَخْتَطف مِن بيننا مَن يريد كما يريد، تصعد الرّوح إلى السماء، ويحمل المُشيّعون الجنازة على أكتافهم، يهبطون في القبر ويُرقدونه في سلام، يدعوا له مَن يدعوا ويدعوا عليه مَن يدعوا، ينصرف النّاس لتمضي عجلة الحياة مِن جديد دون توقف ليقضي الله أمره النّافذ في روح أخرى، لتصعد للسماء كي نرقده في القبر ونمضي.
بينَ هذه الأقدار المُتصلة، والّتي تنسج خيوطاً دقيقة ومُحكمة في نواميس الكون لتكتمل سُننه دون مراعاةٍ لأحد، أجلسُ أنا وحيداً على رُكام الذِكْري، تَنْهَشني تفاصيلها، وتُمرِّغ في وجعها قلبي، تِلكَ الجنازة الّتي سكنتْ القبر مُنذ دقائق وغادر الجميع وتركوها لازمني صاحبها في محنةٍ، أو مرّ بجواري مرتين أو ثلاث واشتممتُ رائحة عطره النّفّاذ، أو عَبِقَ داخلي بمواقفٍ عِشتُ تفاصيلها معه، شيءٌ ما جميل حدث بيني وبينه.
هذا الراحل لمْ يَنخلع مِن قلبي كما انخلع مِن الدنيا هكذا فجأة، لقد رقد في قاع قلبي كما رقدَ جسده على التّراب، لم أستطع أن أُكمل حياتي لتمضي كما أَكملها البقيّة، شيءٌ ما مُؤلم في هذه اللّحظات، الجميع يرحل وترحل قلوبهم حقيقة، الجميع ينسى إلّا قلبي، هذا القلبُ الّذي يعلم أنّ الحياة تحتاجه مُعافي لكي تمضي، هو نفسه قلبي الّذي يَقِفُ على أعتاب الذّكريات، في منطقة فاصلة بين الحياة والموت ليبكي على الأطلال.
فكيف إن كانَ الميّت شهيداً فقدَ حياته برصاصة مضتْ مِن جواري وثقبتْ قلبه، كيفَ إن كان الميّت عزيزاً سالتْ دمائه أمام عيني وأنا فاقد الحيلة، وكان قدر الله أسرع مِن الأطبّاء.
ذكريات مَن رحلوا ما زالتْ تَقْبع داخلي، لون دمائهم ما زلتُ أتذكّره، طريقة مغادرتهم الحياة كانتْ مختلفة عَنِ الجميع، لمْ تُعطهم الحياة فرصة ليودعوني، ولم تتركهم الرصاصة كي يتلفّظوا أنفاسهم الأخيرة، ماتوا بسرعة كأنّهم يحتضنون المنايا، أو كأنّ المنايا مطايا لم أكنْ ذا علمٍ في ترويضها، غادروا وعيونهم مُسبلة كشاشة تلفاز تعرض حياتي كفيلمٍ في شريطٍ سينمائي قديم.
الجميع يسير، وعجلة الدّنيا تدور، وأيام الزمان تتعاقب، واللّيل ينجلي ليأتي النّهار، والنّهار يُغادر ليسُودَ الظّلام، والظّلام ينتشر كما ينتشر النور، نداً بندّ، والقوافل تسير سواء بأصحابها أم بغيرهم، وريح الذّكريات ما زالتْ نسائمها تلفح قلبي وكأنّها تصفعه بقوة، والنّاس تمضي عدا أنا، لا أزال واقفاً أُراقب الماضي وهو يترائى لي مِن بعيد، جالساً شارداً في تفاصيل مَن غادروا بهدوء، أُحاول النوم وعقلي يضجّ بمئات المواقف وتفاصيلها، شَظَايا الحياة الّتي كانتْ بيننا، شَظَفُ المِحنة الّتي أستند فيها كلٌ مِنّا على ظهر الآخر.
الذكرى قنبلة موقوتة إنْ كتمتُها أكثر فستنفجر، ستذهب بي حيث رصاصة أخرى تمضي مِن جوار صديق آخر لتسكن داخلي، كي أموتَ وأنا مسبلٌ عيني وصديقي ينظر لي ليرى شريط حياته كفيلمٍ سينمائي قديم، مِن الجميل أن يموتَ الإنسان برصاصةٍ مِن عدوّه، ومِن الموجِع أن يموتَ صديقه كمداً عليه برصاصة مِن ذاكرته، ذكريات مَن نُحِبّ لونها أحمر كغير العادة، رائحتها تَحمل عَبق أجسادهم، عيونها تحمل نظراتهم الّتي لا أدري أكانتْ نظرات وداعٍ أم نظرات ألم، أولائك الّذين مروا على قلبي سلبتهم منّي الحياة واحداً تلو الآخر في مشهدٍ أليم، كتتابع سقوط حبات لؤلؤ ببطئ، غفلتُ عَن صديقي لبرهةٍ وعيناه ما زالتْ مسبلتان تنظران لي بجمودٍ دون مشاعر، رأيتُ دمعةً قد اختسلتْ نفسها مِن حياته وسكنتْ جانب عينه اليُمنى فسقطتْ مِن عيني على الأرض، فما زِلتُ جامداً بلا مشاعر إلى يومِ النّاس هذا.
اضافةتعليق
التعليقات