إنَّ أنبل السلوكيات وأحطّها قد تظل مُخبَّأة تحت غطاءٍ لامرئي، ومع أيِّ نسيمٍ ربيعيٍ لطيف أو زمجرة رياحٍ صحراوية ستُكشف تلك الخبايا البشرية وتظهر للعيان حقيقة ومعدن تلك النفس التي كانت وديعة وساكنة قبلاً، بل ستنبجس منها طائفة من الخلال التي ماكانت ستأتي أو تتحرك لولا هبّة الرياح تلك أو لنقل المواقف الامتحانية، فإما أن يعلو بعد ذلك في مدارج الحياة أو يغوص في أوحالها!.
فلان _وماأكثر أشباه فلان_ اختار أن يسلك طريق العلم، قد يكون مثلاً ضمن السلك الطبي أو الديني أو الثقافي أو العسكري، فهو على مشارف الحصول على لقب دكتور أو عالم دين أو أستاذ أو عقيد أو وزير ومسؤول في الدولة، وكان من جملة ثمرات تلك الدراسة ومن بعدها المكانة أنه أصبح يرى من حوله على قدم التفوق بعد أن كانت نظرته على قدم المساواة، وغداة الوظيفة أو العمل الذي وصل أو سيصل إليه باتت حركاته زاخرة بالكبرياء والاعتداد ومثقلة بالاستنكار والثقة، فتراه يفتي في الدين وكأنه فقيه متبحّر، ويهدد ويتوعد ويلوّح بسلاحه محدداً مصائر الناس وكأنه مٌشرّع قانوني وليس حامٍ لأمن الناس، ويتفلسف بعد أن قرأ عدة كتيبات ويدخل في مهاترات هدفها حب الظهور وإظهار تفوقه على بقية أقرانه، ويستاء الطبيب وينظر إلى المرضى شزراً إن تمت مناقشته ببعض الأمور العلمية أو إن تمَ تقديم بعض الاقتراحات والأسئلة من أناسٍ بسيطة، وأيضا يتضايق إن لم يلحقوا اسمه بدكتور!.
على رسلك أيها النصف متعلم برتبة فهيم، فلقد قال (سقراط) وهو الذي وصل إلى ماوصل إليه من معرفة، وعندما أدركته الوفاة: الآن علمت أني لا أعلم شيئاً!.
من هنا يراودنا سؤال: لماذا يعتقد الكثير أنه كلما زادت المعرفة ستزيد المكانة الاجتماعية معها طردياً؟!
رغم تسليمنا بأنَّ العلم بحد ذاته يوسع مدارك الانسان ويرفع من مكانته بلا شك وبالتأكيد ستتغير نظرته لكل ماحوله ونظرة الناس واحترامه إليه ستتبدل أيضاً، فالعلم نور ووقار، وهل (يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون)!، لكن أي مدارك وأي مكانة وأي نظرة هنا نقصد؟
إنَّ من يتسلق سلالم العلم كمن يتسلق جبلاً أشما، وعندما يصل إلى ارتفاعٍ ما، فليقف ويتأمل ماحوله هنيهة: هل هنا القمة حقاً؟ أم أنّ هناك قمم أعلى؟ وهل ياترى هدفي من صعودي للجبل هو أن أرى العالم من الأعالي أم ليراني الناس وهم في الأسفل؟
أي إنّك مهما وصلت ودرست وتعبت فالعلم بحرٌ زاخر والدليل على ذلك قول سقراط الذي ذكرناه، وأيضاً حين يؤمن الانسان أنَّ العلم وسيلة لاغاية وأنه فريضة عبادية كالصلاة تماماً سيدرك حينها أنَّ علمه مسؤولية ومن ضمنها أن يأخذ بأيدي الآخرين ويساعدهم لا أن يتعالى عليهم وينعزل عنهم.
والأهم من كل ذلك هو أنك عندما تتسلق وتغترف بطريقك من منبع العلم والمعرفة وتروي بها عقلك العطش، عليك في الوقت نفسه أو قل قبله بخطوات عديدة أن تهذّب نفسك وتعلمّها آداب هذا المسير المقدّس، فالكثير يغفل عن غذاء القلب، ويتجاهل أهمية السعي بامتلاك وجمع مكارم الأخلاق وتشذيب النفس من نواقصها.
إذن، من الكمال أن تدرك نقصك، ومن العقل أن لاتتكئ على علمك فقط لأنه سيسقطك لامحالة في يومٍ ما، وليكن من ثمرة العلم التذلل لله وليس التكبر على خلقه، فمن باب أولى أنه كلما زادت المعرفة ازداد التواضع.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام من بعده وهم معادن العلم وأبواب وخزائن المعرفة خير مثال لمن امتلك خير العلوم وأشرفها، ومع ذلك لم يضعوا أنفسهم في أبراج عاجية بل كانت بيوتهم مفتوحة للجميع ومن دون احتياج لمعاملة لمقابلتهم أو واسطة ومئة عريضة للوصول إليهم، لقد كانوا قريبين من الناس، متواضعين ودودين، يستقبلون عامة الخلق ويجيبون السائل ويحاوروه مهما كان مستواه وبساطة أو حتى سذاجة سؤاله بل كانوا يخاطبونه على قدر عقله.
ولم يكن الطرد الإلهي لإبليس إلا لأنه تكبّر وفضّل طينته على آدم، لقد كان يعتقد أنَّ علمه وعبادته تؤهله لأن يكون ملكاً مقرباً، ولكنه انحط إلى أسفل سافلين بسبب غروره وحسده وهو درس لأهمية الالتفات إلى حسن أو سوء العاقبة.
صدق أمير المؤمنين عندما قال: الاعجاب آفة الألباب.
اضافةتعليق
التعليقات