في كل مرة تترتب الحروف فيها لتشكل نصاً صامتاً يستلقي على ورقة ينتظر من يصفق أو يهجوه تتسلل منه عبارات هاربة من جوف السكون إلى نور النطق فتلتصق على شفاه القارئين في قصيدة متحركة تختبئ وراء استعارة تقتبس حركاتها من ايماءات من يلفظها، حين ترتحل أنامل الكُتاب بين أزقة الإبداع فتروي كل حدث على هيئة صورة من فن تفرد في جماله وارتدى أبهى ثيابه فبات يروي عطش الروح بمجرى سحر حبر قرر الكلام، تستوقفنا كثيرا فيظل اللسان يرتلها حتى تأتي أخرى تنازعها.
في كل عام يعيش العالم الإسلامي ذكرى النهضة الحسينية المقدسة بكل ما فيها من تضحية وفداء وبطولة وولاء، وتتنوع طرق الإحياء وكلها تصب في إبقاء هذه الثورة شعلة تضيء الدروب الحالكة ونبراساً للثوار ضد الفساد ومصباحاً لكل الأجيال يأخذ كل جيل دروسا كثيرة، وتبقى مع كل هذا العطاء غضة طرية معطاءة للجيل القادم وكل الأجيال، ولحسن حظنا أننا ذلك الجيل الذي يعيش أحداثا تشابه ما مر في زمانهم فتصلب رؤوس الحق اليوم على رماح بنو أمية عصرنا وما يسعف الروح أننا ورثنا من تاريخنا قدوة نسير على خطاها ونستذكر فاجعتها فتمدنا بالقوة، فكل القيم الإنسانية و الإسلامية نجدها عند الحسين (عليه السلام) و في معسكره ولهذا جاء الأمر من قادتنا أن نقول ونكرر (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً)، ثم تتعدد أشكال النصرة في كل زمان، بينما نجد في معسكر أعدائه كل ألوان الرذيلة والانحطاط وتسافل البشر، حتى تستحي أن تنتمي لهذه المجموعة البشرية، ولهذا ورد اللعن على هؤلاء والأمر بالتبري منهم ومن أفعالهم، والمسألة المهمة جداً في الموضوع هو، كيف أنتمي لهذا المعسكر (الحق) فأكون واحداً منهم؟.
في الوقت الذي أصبحت فيه الضمائر تألف الرقاد مصابة بخدر المكر والخديعة ونعاس الترهيب والترغيب الذي مارسه بنو أمية في عهده وبنو أمية عهدنا ولتعيدها إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها وتترك الأطماع الشخصية والمصالح الدنيوية قال (عليه السلام): (هل من موحد يخاف الله فينا) إشارة إلى أنه وأهل بيته هم الأدلاء على الله عزوجل حملة الدين بأصوله وفروعه وقد رسم هذا بفعله وقوله، وكانت بعض نداءاته تعدت حدود الزمن لترتل حتى اليوم على لسان حالنا.
ففي آخر كلمات الامام الحسين (عليه السلام) ونداءاته حين قُتل جميع أنصاره (هل من ناصر ينصرنا، هل من معين يعيننا) النداءات التي أطلقها الحسين (عليه السلام) في ظهيرة عاشوراء ما هي إلا صعقة لتصحو النفوس من رقادها وهي آخر محاولة لمخاطبة الفطرة الانسانية في نفوس أعدائه عسى أن ينجو منهم بعد هذا النداء أحد مثلما نجا بعض الأفراد من جيش يزيد بإنضمامهم إلى جيش الحسين (عليه السلام) تأثراً بالخطابات والكلمات التي تكلم بها الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه قبل المعركة وفي أثنائها، وذلك من الرحمة الواسعة التي شملت اهل ذلك الزمان، وتسير رحمتهم عبر العصور كسيل عذب حلو له فرع في السماء ومصبه في الأرض تقف عنده الأقدام وتقبل الشفاه ماطاب من فضلهم وترجو أن تكون ممن لبى النداء في زمانه أو زماننا وإن لم يدركوه عليه السلام ولم يحاربوا معه ولكنهم تبرأوا من أعدائه وأعلنوا براءتهم في وجه الطغيان ودافعوا بلسانهم عن دين الله، وسارت في النفوس رحمة من الله لكل من أحيا ذكرهم.
فتتنوع الأساليب التي يمكن أن ينصر بها المؤمن الموالي إمامه لكن أول الأمور التي يمكن أن يُنصر بها الإمام (عليه السلام) هو أن يضع المؤمن نصب عينيه الغاية التي خرج لأجلها الحسين (عليه السلام) وهي نصرة الدين بأصوله وأخلاقياته والمحافظة على فعل الواجبات ولا يتعد المؤمن حدود الله ولا يظلم ولا يبخس الناس أشياءهم ومن يفعل ذلك فقد نصر الحسين (عليه السلام) بسلوكه القويم لأن الحسين (عليه السلام) خرج ليكون الناس على الخلق القويم فتتنوع النصرة ومنها النصرة باللسان كنشر قضية نهضة الحسين وبيان أهدافها وإظهارها للناس بالمظهر المحبب الداعي إلى التفاعل معها وعدم التنفير منها بالممارسات المنفرة واستخلاص الدروس منها والتي تنفع الناس.
قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): (رحم الله عبد أحيا أمرنا فقيل له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)، هذا فضلاً عن الشعائر الحسينية التي تتضمن في بعض طقوسها القاء الخطب والمواعظ ونشر كلمة الحق وإن كان في حديث صامت دون على شاشة صغيرة أصبح تأثيرها على العقول أكبر يوما بعد يوم فيتحول صمتها لصوت في رأس قارئها يردد ما نصت عليه وما طبع في نفسه قبل ذهنه فتشمله رحمة من أحيا ذكرهم والدروس في تهذيب النفس والحث على اتخاذ الأئمة المعصومين عليهم السلام قدوة وأسوة، فاللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة الحسين يوم الورود إنك سميع مجيب.
اضافةتعليق
التعليقات