من المعروف أن مجمل الأذواق عند الناس والإهتمامات المادية تختلف بين فئة وأخرى، بعيدًا عن الوضع الاجتماعي والأجواء والعادات البشرية والوسط المحيط الذي من الممكن ان يتحكم بهذه الجوانب، إلاّ أن هذه الخصائص المختلفة من الممكن أن تخضع الى حالة الثبوت عندما تخرج من وضعها المادي وتدخل الى الجانب المعنوي الإنساني، فالناس مهما اختلفوا بالألوان والاشكال واللغة والمال إلاّ انهم يتوحدون بالفطرة الانسانية..
ومع الانقلابات التي يعيشها العالم سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية وما يتخللها من الحروب التي لم تخلف إلاّ الضرر والدمار والبؤس للشعوب وخصوصا فئة الأطفال الذين ضيعوا مفهوم الطفولة بين شظايا الحرب نتأمل أن نرى بعد كل ذلك ورغم كل الظروف "وحدة الأمة الانسانية" ضد ما يحصل من تعرض وانتهاك للفطرة الانسانية في العالم ووقفة مبجلة ضد الباطل.
إلا إنك بعد كل ما يحدث في المنطقة ستنصدم بغفوة الضمير التي يعيشها الناس بتجاهل ملايين الجثث التي لم تجد ما يسترها من كفن تحفظ لها كرامتها بعد الموت، في حين ينشغل الناس بما تلبسه ميغان وما تضعه ميغان، ومن تتزوجه ميغان!.
فهل من المعقول أن تكتب أكبر المواقع العالمية والعربية عن النمش الذي يغطي وجه ميغان ويتجاهل الموت الذي بات يخطف أهل اليمن بالملايين دفعة واحدة؟!
في الحقيقية الأمر أكبر مما يتخيله المشاهد البسيط الذي يجلس خلف شاشة التلفاز او الموبايل، فهذا التعظيم والتشهير المبالغ به في مواقع التواصل الإجتماعي وبرامج التلفزيون لم يكن محض صدفة، بل أمر مدروس وذو غاية ووسيلة، فالجمهور بذاته هو مستقبل صامت، أو كما يصفه غوستاف لوبون في كتابه (سيكولوجية الجماهير) بأنه سريع الانفعال والنزق، وعاجز عن المحاكمة العقلية، ويتصف بانعدام الرأي الشخصي والروح النقدية والمبالغة في العواطف والمشاعر.
فالجمهور الذي يترقب ما يحصل في العالم من الأخبار او الأحداث هو في الأغلب انسان انفعالي يغره الظاهر والمنظر الجميل، وتتلاعب به المشاعر والأحاسيس، كما ان الكثير من مغريات الحياة من الممكن ان تؤثر على نمط حياته بشكل كبير، فيصدق كل ما تراه عينه، دون أن يسأل نفسه عن مصدر الخبر او الجهة المتبنية له، أو حتى الغاية الفعلية التي على أساسها تم الاهتمام بهذا الخبر وتعميمه بهذه الصورة المكثفة.
ولكن عندما نضع الأخبار التي تحصل حاليا في المنطقة بين كفتين، سنجد في أحد كفتي الميزان هو خبر (موت الملايين في اليمن)، فارتفعت هذه الكفة بعدد الضحايا التي سفكت دمائهم ظلمًا، وفي الكفة الثانية سنجد اخبار (ميغان) عن لون بشرتها وماذا ترتدي وماذا تضع...الخ، إلاّ أن هذه الكفة ارتفعت نتيجة الرواج والإهتمام الذي لاقته في مواقع التواصل الإجتماعي والإعلام، فهل رخصت الانسانية الى الدرجة التي تقارن فيها الدماء التي سفكت، بالنمش الذي يغطي وجه ميغان؟.
في الحقيقة هنالك أمور كثيرة بقيت خلف الكواليس ولم يرها الجمهور وما خفي كان اعظم، وبطبيعة الحال عندما تشعر بعض الجهات بخطورة الوضع الأمني الذي يهدد مصالحها في المنطقة ستحاول بكل الطرق ان تسدل الستار عن الظلم والقتل والدمار الذي تصنعه في العالم، ويكون همها الوحيد هو خلق موضوع تشغل به الناس والرأي العام عن (الموت في اليمن)، فما يكون امامها سوى ميغان ميركل لتكون هي الوسيلة التي تشغل به الجمهور عن القضية الانسانية والدفاع والتعاطف عن ملايين الأبرياء الذين سفكت دمائهم ظلما... فوظف مئات الصفحات الفعالة في الفضاء المجازي لتشغل الرأي العام وتخلق جوًا من التفاهة لتصل الى غايتها السوداء بكل هدوء ويستمر مسلسل الدم هذا في العالم بلا شبهات.
هذه ما نسيمه بالتضليل الإعلامي بنوعه الآخر، فتكبير الأمور وتصغيرها بحسب الأهواء الشخصية والمصالح الخبيثة، والتلاعب بالعقول عن طريق الاعلام هو أمر دنيء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ونستطيع ان نقول بأن تضارب المصالح واختلافها وتضادها يجعل من التضليل الإعلامي سلاحاً فعالاً في الصراعات خصوصاً في ظل الظروف السياسية الصعبة التي يعيشها العالم.
فبهذه الحالة تقع المسؤولية الكبرى على عاتق المتلقي بأن يفرق بين الصالح والطالح، وبأن يوظف مشاعره ويتفاعل مع الاخبار التي يرضي بها الله وضميره الإنساني ويقف وقفة شامخة مع الحق، كما يشير آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه (فقه الاعلام والرأي العام) حول دور إعلام في التعتيم والتلميع والتسويق والدعاية السوداء التي تكون وليدة أجواء ومناخات سياسية واجتماعية مُزيفة، وتأكيده على المسؤولية التي تقع على المتلقي والباحث وحتى الصحفي والإعلامي أن يتعامل معها بوعي وذكاء ومسؤولية في لقاءاته وتحقيقاته ومسحه للرأي العام للاقتراب مِن الحقائق الاجتماعية والسياسية والالتزام بمؤشرات الصحافة المواطنيّة.
فما يجدر بالمتلقي هو أن يتجاوز حدود الوعي المقيد أو المعلب، ويكون في مستوى وعي وإدراك ثقافي جيد يؤهله أن يفرق بين نوعية الأخبار التي تنشر، ويضع ألف علامة استفهام حول الأشياء التافهة التي تلقي رواجا وتأخذ حيزا في الوسط الإعلامي بلا سبب عقلي مقنع، ويستوعب الهدف الذي روجت من أجلها...
اضافةتعليق
التعليقات