عبادة روحية ترتبط بفقه القلوب، من أعظم العبادات، مغفول عنها، أشارت إلى عظمتها بيانات أهل البيت صلوات الله عليهم، في أكثر من مقام ومناسبة، وتعظيمها على غيرها، لا يعني التفريط والاستخفاف بالعبادات البدنية.
عبّر عنها أمير المؤمنين ويعسوب الدين صلوات الله عليه، في أكثر من عبارات دعاء كميل، "بالحب" و"الشوق" "والوله" كما في (واجعل قلبي بحُبِك متيما) (وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك)، وأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله في أكثر من رواية مستفيضة ومتواترة عند الفريقين، "بالحنين" أي القلب الذي ليس فيه حنين وأنين لرسول الله أو لأهل بيته، يعتبر ظالما لنفسه، وما كان حنين وشوق السيدة فاطمة الزهراء إلى أبيها، وشدة بكاؤها عليه، إلّا لشعلة وجذب القلوب إليه في المدينة المنورة، مقابل الأطراف الأخرى المعاندة له التي تصدت على محو ذكره بقوله (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات).
وأما سيد الشهداء الحسين صلوات الله عليه فقد عبّر عنها "بالوله" في قوله الشريف (وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف).
و"الوله والاشتياق" أعظم عبادة، لازمت روح الحسين، منذ خروجه من المدينة المنورة حتى يوم استشهاده في كربلاء، رخص عندها الاستبسال، وهانت أمامها جميع الأهوال والنوازل.
وأما الإمام جعفر الصادق صلوت الله عليه، فقد تفرد بهذه العبادة عبر ندبة عظيمة أقامها طوال ليلة أو أكثر، ناحبًا، منتحبًا، حزينًا، على حفيده الإمام المهدي "عجل الله تعالى فرجه الشريف" الذي لم يلد بعد، كما نقلها الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة بسنده، والصدوق في كتابه كمال الدين بسنده، عن رواية معتبرة رواها بدقة وإسهاب "سدير الصيرفي"، حينما دخل على الإمام هو ومن معه من العلماء الأفاضل؛ أصحاب الإمام الباقر والصادق صلوات الله عليهما، مِن أمثال أبان بنُ تَغلُب وأبو بصير والمفُضل بن عمر ، فرأوه ساجدًا وراكعًا وجالسًا على التراب، يندب بلوعة وأسى على حفيده، وعليه مسح خيبري، مُطوق بلا جيب، ومُقصر الكمين، يُلبس كرمز لإظهار الحزن والعزاء الشديد، كما كانت هي سنة بعض العلماء القدامى في عشرة محرم الحرام، يَخشوشنوا في العيش، ويعتزلون نعومة الحياة، ولا يذوقون الحلوى والفاكهة، كي يحسوا ويشعروا بعظم المصاب.
كما استرسل "الصيرفي" في بيان تفاصيل أكثر مأساوية، عن هذه الندبة والعبادة، فذكر أن إمامه الصادق صلوات الله عليه كان: (يبكي بكاء الواله الثكلى، ذات الكَبد الحَرّى، قد نال الحزن من وجنتيه وشاع التغيير في عارضيه، وأبلى الدموع مَحجريه)، أي كان بكاء بلوعة وحرارة على حفيده، عُرف ذلك من تغيير وجهه، وتدفق الدم من وجنتيه، وابتلال محجريه أي "حضنه" بدموعه الغزيرة، هذا و"سدير الصيرفي وجماعته" لم يشهدوا إلّا في نهاية هذا الحدث، فماذا كان هو حال الإمام قبله، الله أعلم؟
إذن عندما نادى الإمام الصادق ب ("سيدي" لابنه المهدي)، في "رواية الصيرفي"، لم يأت جزافًا أو تكلفًا منه والعياذ بالله، بل قالها توقيرًا وإجلالًا لمنزلته ومكانته المتقدمة رتبة ونورًا على آبائه "الثمانية المعصومين في عالم النور"، بقرينة ما جاء في رواية "المعراج"، لما أنبأ جده رسول الله صلى الله عليه وآله، عنه وعن قيامه وانتقامه وثأره له، ولجميع عترته الطاهرة، الذين ستقتلهم أمته المتعوسة، وبعد أن أصابه الحزن الشديد على الحسين وعلى عترته خفف الباري تعالى عليه بقيام ابنه المنتقم هذا "وبهذا سأنتقم". وبقي رسول الله طوال حياته، لا يفتأ من ذكر المهدي "صاحب العصر والزمان"، ويدعو له ولأنصاره بقوله (مِنّا المهدي ومنّا المهدي ومنّا المهدي).كذلك جده، "سيد الأوصياء" علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما، كان ينكت الأرض حزنًا وكآبة على ابنه المهدي الغائب، الذي لم يولد بعد، ويتنفس بذكره الصعداء كلما ضاقت به حدة الشدائد، فكم من مقامٍ عظيم لك يا "صاحب الأمر" عند أجدادك وآبائك.
وأما قوله جعفر الصادق صلوات الله عليه له ب(غيبتُك نفت رُقادي، وضيقت علي مهادي..) لم يكن فلم عشق أو غرام إنما هي سنن عظيمة أراد إحياءها الصادق مواساة لابنه القائم "الطريد الشريد"، الذي طال غيابه ونزوحه وانتظاره وتشريده أكثر من ألف عام، كما جاء في دعاء الندبة (بنفسي أنت من مغيب لم يخل منا بنفسي أنت من نازح ما نزح عنا بنفسي أنت أمنية شائق يتمنى من مؤمن ومؤمنة ذكرا فحنا)..
إذن فمَن أقام عليه مثل هذه السُنن.. أم انها قد اندرست والعياذ بالله؟
حقيقة الأمر ليس بسهل، لا يستشعر به أي "بمصاب الإمام وطول غيبته"، ولا يخفف عنه وعن آلامه، إلّا الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، وشدة اهتمامهم بهذا الموضوع، تحثنا بضرورة الاستشعار به ومواساته.
وإقامة المآتم والعزاء على غيابه، هي أولى الخطوات، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
اضافةتعليق
التعليقات