تقع على الآباء مسؤولية كبيرة تجاه أبنائهم، وان لم تكن هناك مدارس معينة تعد الشخص لكي يكون أباً ناجحا، إلا إن وظيفة الأب تعتبر من اخطر واهم الوظائف في المجتمع ومن أصعبها جميعا، وقد يسهل على الفرد ان يكون طبيبا ناجحا، او مهندسا ناجحا، او عاملا ناجحا، ولكنه ليس من السهل أن يكون أبا ناجحا، فنرى الكثير من الأبناء يقعون ضحايا آبائهم الذين لم يؤدوا دور الأب بما يتوجب عليهم، فينشأ الأولاد عكس ما كانوا يتمنون، محملين القدر عبء أخطائهم في رعاية أبنائهم.
(بشرى حياة) سلطت الضوء على هذا الجانب من العلاقات الأسرية بين الأبناء والآباء للتعرف على الأسباب التي أوصلتهم إلى انعدام لغة الحوار فيما بينهم..
كره دفين
قالها دون اكتراث، وبثقة لا مناص منها: أنا اكره أبي ولولا أمي لقتلته!
(س. ر) 36 سنة: منذ صغري وأشعر بأنه حاقد على وجودي في حياته، هذا شعوري الذي تزايد كلما كبرت، لم يهتم يوما الى ما أريد، كان جل تفكيره بأني يد عاملة، يجب أن اعمل وأعطيه كل ما اجنيه، هذا هو دوري في البيت، كان يعشق المال، فإن أعطيته المال أصبح يعاملني باحترام، وان طالبته بشيء يضربني، بقيت سنوات وأنا ألوذ بالصمت، حتى وصل بيَ الأمر، ان أعيش في بيت واحد مع أسرتي لكن حياتي بتفاصيلها مستقلة.
وتابع حديثه: الغريب بالأمر انه لم يسألني يوما عن شيء يخصني، وفجأة وبدون مقدمات، وجدته في مدرستي يسحب وثيقتي، ويطلب مني ان أتوظف بإحدى الدوائر، كانت بالنسبة لي فرصة، لكن معاملته لي دون الاهتمام لرأيي أو حتى سؤالي إن كنت انوي دخول الجامعة جعلني ارفض الوظيفة، ومنها ابتدأ الشق الذي بيننا يكبر، ازداد كرهي لأبي حتى تحول إلى حقد دفين، مرت أحلى سنوات عمري ولم يهتم إلى أمري بزواج أو مستقبل، أو حتى انطوائي، أنا اكرهه فقد تسبب بضياع العائلة بأفعاله التي يطول شرحها.
لم ينجح أبي بتأدية تلك الرسالة الأبوية التي نص عليها القران الكريم ورسوله (ص)، لم تجمعنا لغة حوار انا وابي منذ سنين خلت، وان حدثني يوما أول شيء يقوله هو اخرج من بيتي، فقد كنت صغيرا وأبي تزوج وعشت وحيدا.
ويكمل ما قاساه في صغره: لا يريد أن يدرك إننا جيل آخر وهذه حياة أخرى غير حياته المكتظة بتخلفات أبيه الذي تزوج بزوجة أخرى مقابل أن يزوج ابنته لوالد زوجته الثانية، مضت 23 عاما وأنا لم أتحدث إليه ولست نادما على عقوقي له بل أتمنى موته.
في حين قالت ليلى وهو اسم مستعار، 25 سنة، موظفة: لست سعيدة في حياتي حتى في عملي والسبب يعود أساسا إلى طبيعة تصرفاتي تجاه زملائي الذكور في العمل.
فأنا أعاني من عدم الثقة بالرجال، وهذا ما يجعل كل من يفكر بخطبتي يتراجع بسبب تصرفاتي العدوانية، وبدون أسباب واضحة أحيانا.
وهذا يعود إلى ما عشته في كنف أسرتي منذ صغري بسبب تعامل والدي المتسلط مع والدتي، حيث كان يضربها بسبب او بدون سبب حتى تأثر أخي بطباعه فأصبح يعاملني بنفس الأسلوب، من شتم وضرب، حتى أمي كان يتجاوز عليها بألفاظ نابية، فأصبحت لغة الشتم والسب هي لغة التواصل التي يجيدها.
تزايد شعوري بنبذ أبي، كنت اسأل نفسي: لماذا يعاملني بهذه القسوة؟ وبهذا التخلف؟ إن أبي أب فاشل، انظر إلى السماء وأسال ربي لماذا رزقته بالذرية فهو لا يستحقها، لقد حاولت مرارا التخلص من هذه الهواجس لكن دون جدوى، أحاول أن أغير نظرتي للرجال، لكني أجد نفسي دائما عاجزة أمام ذلك، فوالدي جعلني أكره كل الرجال وأكرهه لأنه واحد منهم.
لم يكن هناك لقاء بيننا أنا وأبي حتى تكون لنا لغة حوار مشتركة، هذا ما استهل به حديثه (م. د) محامي، 29 سنة، ثم واصل كلامه قائلا: أنا لا اكره أبي، لربما مشاعري أصبحت جامدة، أو متضاربة نحوه، وربما أنا احقد عليه، والسبب يعود لمرض أمي الذي أرقدها في الفراش، حيث قرر أن يتزوج، كان علينا أن نقبل بتلك الزيجة فهذا الحق يتمتع به الرجل فقط، فإن حصل العكس يجب أن تبقى الزوجة تحت أقدامه ترعاه وان طالبت بالطلاق ومواصلة حياتها مع رجل معافى سيتشدق الناس عليها بالكلام البذيء وهذه هي العنصرية بحد ذاتها.
تزوج أبي، ورحل عنا، بل أخرجنا من حياته تماما أنا وأخوتي، اضطر أخي أن يترك تعليمه حتى يستطيع توفير متطلبات المعيشة المضنية، كان يعمل ليلا ونهارا، حتى يؤمن لنا مصاريف جامعاتنا أنا وشقيقتاي، ودواء أمي غير المتوفر في أغلب الأحيان في المستشفيات، حرم نفسه من أن تكون له شهادة وحياة غير الحياة التي هو عليها الآن، حتى نصل نحن إلى بر الأمان، وهذا ما كان على أبي أن يفعله، ولأن أخي تحمل كل تلك المشقة، كره أبي كرها جما، وكان دائما يردد أن ما يربطني به هو أن اسمه خلف اسمي في شهادة الميلاد لا غير .
رؤية نفسية
وشاركتنا الاستشارية النفسية في مركز الإرشاد الأسري إيمان الموسوي حول تأثر الأبناء بمعاملة آبائهم لهم حيث قالت:
هناك أسباب يمكن أن تقف وراء غياب الحب وظهور مشاعر كراهية الأبناء لآبائهم فلا أحد يشك الآن بأن هناك هوة شاسعة بين نمط الأسرة التقليدي، وبين نمط الأسرة الحديث، فمن السهل ملاحظة عدم التطابق بين النمطين وانعدام التطابق، فهذا ينسحب على جوانب مهمة من حيث تركيبها وبنائها بين الجيلين.
وأضافت مؤكدة: هناك كره يولد في بداية الزيجة، وذلك بسبب انتقاء الزوجة أو الزوج مع عدم التوافق فيما بينهما، وتعد هذه نقطة مهمة، فإذا كانت الزوجة مرغمة على الزواج، فالكره الذي تكنه بداخلها لزوجها يتحول للطفل وهو في أحشائها، إذ أن الكره هو اكتساب من مشاعر الأم، وأحيانا تكون هناك انعكاسات، فربما ما عاشه الأب في صغره وجعل منه رجلا مسؤولا هو ما يدفعه أن يستخدم نفس الأسلوب في التعامل مع أسرته بنفس الطريقة، متناسيا أن هناك تفاوتاً بين الجيلين من عادات وأساليب تغيرت لما ظهر من وسائل جعلت الأبناء لا يتقبلون انطباعات الأبوين لهم.
وهنا يولد الكره ويتفاقم حتى يصل أحيانا إلى حالات نفسية تقود إلى الاكتئاب، أو الانطواء أحيانا، فيكون الشخص المصاب اما مطيعا، أو متسامحا، أو بشخصية متقلبة، فهنا يحتاج لجلسات استرخاء لإخراج الوحش الكاسر الذي بداخله، والذي أوصله لدرجة الإشباع وذلك بسبب خلية بالدماغ تسمى الخلية القانصة، التي تجعل من المصاب يختار الصمت الاختياري، أو الخوف من التواصل، حيث يقبع بهذه الحالة لسنوات طوال دون ملل، ولا يخرج منها إلا إذا تواصل مع أخصائيين.
رؤية شرعية
فيما قال الشيخ نزار التميمي عن الجانب الشرعي بهذا الخصوص مستهلا حديثه: إن الإسلام لم يغفل أبدا عن شأن بناء الأسرة ونموها وقوتها وتقدمها، نعم، هناك الكثير من المسؤوليات التي تقع على الأب تجاه أبناءه وأسرته، بدءاً من حسن تسميته وحتى اخر مفردة من مفردات الحياة، إلا إن الأهم من كل تلك المسؤوليات، هو أن يحرص الآباء على نُصح أبنائهم دائماً حتى لا يقعون في الخطأ، وأن يعلموهم كيفية انتقاء الأصدقاء الجيدين والابتعاد عن أصدقاء السوء حتى لا يضروهم في حياتهم.
وأضاف التميمي: فيتوجب أن لا يعاقب الأب ابنه بشدة ويؤذيه، لأن ذلك سوف يؤثر كثيراً على نفسيته، وقد يجعله يشعر بالاكتئاب، أو يكرهه، بل الأصح أن يحرص على نُصحه، وتوبيخه، أو إذا اضطر إلى عقابه فيجب أن يختار عقاب لا يؤذي صحته، أو مشاعره، حتى يتعلم مِن خطئه، ولا يتمادى أكثر في المستقبل. وإذا كان الابن يكثر من ارتكاب الأخطاء ولا يشعر بالمسؤولية فيجب أن يصبر عليه ويحاول معه مراراً وتكراراً حتى يتعلم الصواب.
وتابع التميمي عن مقاطعة الأبناء للآباء وعدم التواصل معهم قائلا: لقد اتفق الفقهاء واستنادا لصريح الخطاب القرآني على حرمة إيذاء الوالدين ولو بكلمة أف فضلا عما زاد عن ذلك، وبالتالي على الأبناء مراعاة ذلك والحرص على عدم التعرض لأذى الوالدين، سواء كان عبر الكلمات والألفاظ، أو السلوك والمواقف، كمقاطعتهم أو عدم التواصل معهم، وليعلم الجميع ان إسلامنا هو إسلام الرحمة والإنسانية والتقارب والتراحم، فإذا كنا نؤمن بالله واليوم الآخر فلنرحم الآباء والأمهات ونرحمهما كما ربيانا صغارا.
اضافةتعليق
التعليقات