يوجد في عالمنا الكثير من الأحداث التي تتباين فيما بينها من ناحية احتمال الحدوث وحجم التأثير، ويطلق على الأحداث ذات احتمالية الحدوث المنخفضة جدًا التي تكون نتائجها كارثية مصطلح البجعة السوداء.
نشر نسيم طالب، كاتب لبناني أمريكي، عمل مدرسًا في جامعة نيويورك بالإضافة إلى عمله في إحدى شركات وول ستريت هذا المصطلح بنفس الاسم في كتابه «البجعة السوداء: تداعيات الأحداث غير المتوقعة».
ذكر نسيم في كتابه ثلاث خصائص للبجعة السوداء وهي:
عدم القدرة على التنبؤ بها.
كثرة النتائج الخطيرة المحتملة.
إمكانية التنبؤ بها بأثر رجعي (محاولة تبرير أو تفسير حدث ما عبر ربطه بأحداث سابقة دون الاعتماد على أي دليل).
ما هي البجعة السوداء؟
تشير خصائص البجعة السوداء المذكورة في الكتاب إلى أن هذه الأحداث تعد قيمًا متطرفة ولا يمكن توقع احتمال حدوثها طبيعيًا، وآثارها (في حال وقعت) كارثية، إلا أنه يمكننا تفسير هذه الأحداث بنحو واضح بعد وقوعها وهو ما نسميه التنبؤ بأثر رجعي.
وصف جوفينال (كاتب روماني ساخر) الأحداث نادرة الحدوث بالبجعة السوداء، وذلك لأن البشر كانوا يظنون أن جميع البجع لونه أبيض حتى عام 1697 حين اكتشف ويليم دي فلامينغ (بحار هولندي) البجع أسود اللون.
ما آلية عمل نظرية البجعة السوداء؟
تفترض نظرية البجعة السوداء أن النتائج الاقتصادية والمالية على السوق الناجمة عن الأحداث غير المتوقعة يمكن أن تكون خطيرة، إضافة إلى أن تراكم التجارب المتشابهة وتكرارها قد يكون سببًا في وقوع مثل هذه الأحداث.
تكمن مشكلة البجعة السوداء وفقًا لنسيم طالب في السؤال التالي: «كيف يمكننا معرفة المستقبل في ظل معرفتنا بالماضي؟»، بمعنى آخر كيف يمكننا بناء استنتاجات من تجاربنا في حين أننا لم نختبر كل شيء؟، إذ إن رؤيتنا للبجع الأبيض فقط لا تعني عدم وجود بجع بألوان أخرى.
شبه نسيم طالب التجارب السابقة بالديك الرومي الذي يعتنى به من أجل عيد الشكر، إذ إن إطعام الديك الرومي يومًا بعد يوم يجعله يتوقع أننا سنطعمه في اليوم التالي، ويزيد اعتقاده في الأمر في كل يوم نطعمه فيه إلى أن يأتي اليوم الذي يسبق عيد الشكر فيعيد الديك النظر في معتقداته.
بمعنى أننا إذا استمرينا بتجربة شيء ما مثل رؤية البجع الأبيض فقط سنعتقد أننا سنحظى بنفس التجربة مستقبلًا، لذا تعد التجارب غير المتوقعة مهمة من أجل تغيير المعتقدات المتعارف عليها.
مثال على البجعة السوداء:
أوردنا الأمثلة التالية من أجل شرح خصائص نظرية البجعة السوداء الأخرى (التأثير الاقتصادي الكبير والتنبؤ بأثر رجعي):
أزمة الرهن العقاري 2008.
أدت أزمة الرهن العقاري إلى واحدة من أسوأ الفترات الاقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة منذ الكساد العظيم 1929 وتضمنت الخصائص الثلاث للبجعة السوداء:
غير متوقعة: لم يتوقعها صانعو السياسات الاقتصادية ولا حتى مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إذ قال آلان جرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي حينها: «لا يمكن أن تحدث مثل هذه الأزمات دون أن تكون مفاجئة».
آثارها كارثية: تضاعف معدل البطالة وبلغ 10% (الذروة)، ووصل عدد حالات حبس الرهن (ويطلق عليه غلق الرهن وهو حرمان الراهن من حق استرجاع العقار المرهون) بين عامي 2007 و2010 إلى 3.8 مليون حالة بسبب الانخفاض الحاد في سوق الإسكان وتداعياته.
يمكن التنبؤ بها بأثر رجعي: دُرست أزمة الرهن العقاري وتبين لمعظم الاقتصاديين أن السبب الرئيسي لهذه الأزمة هو سياسات الإقراض المتساهلة، مثل تقديم القروض لأشخاص ذوي جدارة ائتمانية ضعيفة، ثم حُولت هذه القروض إلى أوراق مالية مختلفة ليعاد بيعها بنحو غير مشروع.
فقاعة «دوت – كوم» في الولايات المتحدة 2001.
أدت المبالغة في تقييم شركات التكنولوجيا إلى ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الأسهم في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، فنتج عن هذه الارتفاعات انهيار شديد وهو أمر متوقع وفق «انحياز الإدراك المتأخر» (الجنوح إلى رؤية الأحداث الماضية على أنه كان من الممكن التنبؤ بها قبل حدوثها).
غير متوقعة: استثمرت الأموال بنحو ضخم في قطاع التكنولوجيا خلال التسعينيات من القرن الماضي ما أدى إلى ارتفاعات كبيرة وقياسية في أسعار أسهم شركات التكنولوجيا ما شكل فقاعة اقتصادية (دورة اقتصادية تتصف بالارتفاع الهائل للقيمة السوقية لأسعار الأصول، ويتبع هذا التضخم السريع انخفاض أو انكماش بالقيمة، ما يُعرف أيضًا بالانهيار أو انفجار الفقاعة). أهمل المستثمرون حقيقة أن هذه التقييمات مبالغ بها لأنهم كانوا مقتنعين أن الإنترنت والتكنولوجيا غيرت كل شيء من حولهم، ما يبين لنا أنهم لم يتوقعوا أن تنخفض قيمة قطاع التكنولوجيا بنحو كبير.
آثارها كارثية: انفجرت الفقاعة في 13/03/2002 ما أدى لانخفاض مؤشر ناسداك تدريجيًا بنسبة 78.4% حتى بداية الربع الرابع من عام 2002، أدى انفجار الفقاعة إلى تقلص قطاع التكنولوجيا وعليه، خسارة جزء من العمالة لوظائفهم تدريجيًا (حوالي 17.8% من العمالة) حتى عام 2004.
يمكن التنبؤ بها بأثر رجعي: أُلقي اللوم على المستثمرين غير العقلانيين الذين دفعوا الأسعار للارتفاع بالإضافة إلى إتاحة رأس المال الاستثماري بنحو مبالغ به واستخدام الاحتياطي الفيدرالي للسياسات النقدية من أجل إبطاء الاقتصاد والسيطرة عليه.
انهيار فلاش 2010.
تلاعب تاجر العقود الآجلة البريطاني نافيندر ساراو بخوارزميات التداول الآلي ما أدى إلى انخفاض مفاجئ وسريع وحاد في أسعار الأسهم والذي أطلق عليه الانهيار السريع (انهيار فلاش).
غير متوقعة: حدث انهيار فلاش بنحو مفاجئ، إذ لم يكن هناك شيء يدل على قرب حدوثه لذا لم يتوقعه أحد.
آثارها كارثية: خسر السوق نحو تريليون دولار في اليوم الواحد، إلا أن أحد آثار انهيار فلاش الإيجابية كانت تنظيم النشاط التجاري بنحو أكثر صرامة، فمثلًا أُنشئت قواطع حلقية تعمل على إيقاف التداول مؤقتًا عندما تتجاوز قيمة الأوراق المالية المتداولة حدًا معينًا في فترة زمنية محددة.
يمكن التنبؤ بها بأثر رجعي: تلاعب ساراو بالسوق وتسبب بانهياره بوساطة محاكاة الطلب باستخدام أوامر وهمية.
هل يمكن تصنيف كوفيد – 19 على أنه بجعة سوداء؟
حدث وباء كورونا بنحو غير متوقع ومفاجئ ما جعل البعض يصنفه على أنه بجعة سوداء، إلا أن نسيم طالب لم يوافق على هذا الأمر، ويبرر رفضه عبر خاصية البجعة السوداء الأولى (غير متوقعة)، إذ إن العلماء ومسؤولي الصحة العالميين والمحليين يصنفون الأوبئة الكبرى على أنها أحداث حتمية غير عشوائية ومتوقعة.
دائما ما توجد أحداث مجهولة وغير متوقعة (بجعة سوداء) يمكنها التأثير على الأسواق المالية، لذا يتوجب عليك الحذر واتخاذ الاحتياطات اللازمة مثل تنويع الاستثمارات والأصول المحتفظ بها من أجل مواجهة تقلبات السوق.
اضافةتعليق
التعليقات