قد تزج بنا الحياة في مواقع ضعيفة ومواقف لا يحسد عليها، فنلوذ بالفرار بطرق شتى، وقد يكون أولها الكذب..
وهذا الملاذ الوحيد الذي وجدته، للهروب من واقعها الذي جرفها بتياره إلى خسارة أوجعت قلبها.
لم تكن راضية عن حياتها المتواضعة التي خيم عليها الفقر لطالما رسمت في مخيلتها حياة أخرى كانت تتمنى أن تعيشها وكان الخجل يعتريها من مواجهة المجتمع وتتجنب الحديث عن عائلتها.
حتى التقت بـ مريم في بداية عامها الدراسي الجديد وهي مرحلة الثانوية وبعد مضي فترة قصيرة أصبحت هي و مريم أكثر من صديقات.
أحبتا بعضهما حبا جما، فقد جمعتهما أكثر من صداقة حتى أصبح حبهما حديث الكثير من صديقاتهن في المدرسة، وبرغم كل هذا لم تكن تتجرأ على إخبارها عن تفاصيل حياتها، عكسها تماما مريم فلم تخفِ أي شيء إلا وسردته لها حتى أدق أشيائها كانت تقصها لها.
كانت تشعر بتناقض كبير بين حياتها وحياة مريم المترفة فتلوذ بالصمت وهي تستمع إليها مدعيةً انها لاتكترث فهي تعيش نفس واقعها تماما من ترابط اسري وود وتعاون ويطول الحديث عن مزايا أسرة مريم التي تمنت أن تكون أسرتها على شاكلتهم.
و بقيت أمنياتها محشوة بجمجمة رأسها الصغيرة، (كنت أتمنى أن يكون أبي كأب مريم رجل مثقف ينظر للحياة بآفاق أوسع، كنت أتمنى إخوتي كأخوة مريم متحابين متعاونين فيما بينهم ليس كل منهم يرنو إلى مصلحته فقط حتى وان كانت على حساب الغير، كنت أتمنى أن يكون لنا بيت مثل بيت مريم، نعم هذا هو أهم وأجمل أحلامي)، قفزت من رقدتها كأنما أرعبها كابوس فهي تكره بيت أسرتها البيت المتهالك الذي يتسرب من سقفه المطر كلما حل الشتاء كانت تتمنى لنفسها عالم آخر لا يمت لواقعها بصلة البتة.
وفي كل ليلة تسمح لعينيها الذابلتين بالبكاء وهي تفترش أهداب حزنها على وسادتها بأمنياتها التي تراودها حتى تغفو، كل هذه التناقضات جعلتها تكذب، وتكذب، وتكذب، حتى بات كل حديثها مع مريم كذبا حينما تسألها وبإلحاح عن أسرتها.
فراحت تكلمها عن تلك العائلة التي طالما رسمتها في مخيلتها، حتى عنوان بيتها كذبت به خشيت أن تزورها في بيتها المتهالك، وحتى تفاصيل حياتها اليومية التي تُحدثها بها كل يوم.
لكن ذنب هذا الكذب بدأ يكبر يوم بعد يوم حتى مر عام كامل مليء بحياة مزيفة مع أغلى إنسانة على قلبها، وفي نهاية العام قررت أن تعترف لـ مريم بكل أكاذيبها فهي ليست بهذه الصفة المقيتة وما دفعها للكذب هو شيء ليس بملىء إرادتها، كل ما هنالك إنها فتاة حالمة فقط (كانت تتمنى) وهذا ليس جرماً على حد قولها متناسية عواقب الكذب.
استجمعت قواها وأخيراً فتحت فاهها لتفضي لها بأنها تعيش ظروف مريرة أجبرتها على الكذب للتخلص من واقعها، وعدتها مريم بأنها ستسامحها مهما كان اعترافها قاسي ولن تتخلى عنها مهما كان، وهنا وقعت الصدمة فقد كانت ردة فعل مريم عكس وعدها تماماً، فلم تتقبل اعترافها رغم اعتذارها لها آلاف المرات والذي استمر لشهور لكن دون جدوى.
مسحت بكذبها أجمل ذكرياتها وانتهت تلك الصداقة بوداع مؤلم، خلفت بعده حسرة وندم جعلتها تواجه العالم أجمع بواقعها ولا تكذب مطلقاً مهما كان.
لربما يحتاج الإنسان صدمة توجع قلبه حتى يتوقف عن الكذب وهذا ما حصل معها.
اضافةتعليق
التعليقات