يحمل أديم الصمت بواطن مختلفة الملامح شاسعة الأسباب، فكم من مرات اخترناه لننأى بأنفسنا من أشواك الكلام، مختارين لا مرغمين مستعينين بترسانات التجارب لتعيق فورة دمائنا وتلبسنا ضوءه القاتم.
نحط الرحال عند تخومه حين تحتشد المعاني بالنفس الموجوعة لتخمد جراحنا، أو لنغربل الإجابة لتوازن القول أو تكون أشد وأقسى مما سمعنا، فالتمهل يمنحنا رمح ثاقب يقطر معاني عميقة مسبوكة بحنكة وتشفي ويغذينا ببطئ الرد.
أو نحسبها أوقات استراحة مدفوعة الثمن كي لا نخسر من نحب فلا نود أن نخسره بعبثية لسانه وهرولة سهام حروفه، أو حين تتبدد الكلمات وتتيه بعاصفة اللغو ورياح المهاترات نلوذ بخيمته ونحني قاماتنا حذرا من الانكسار.
قشور الصمت الصلدة تحيط قلوب المتأنين وتفتت براكين الغضب وتمنع تجاسر شرره، فنقايض قسوة الحروف بالصمت الحكيم ونخرج من أسواق البدائيين لنفرحهم بربح واهم، ونكسب متعة التعقل.
يقول العلامة الراغب الاصفهاني: (الصمت أبلغ من السكوت). كيف؟
يفسر، الصمت يراعى فيه الطول النسبي، فمن ضم شفتيه آنًا يكون ساكتًا، ولا يكون صامتًا إلا إذا طالت مدة الضم. والسكوت إمساك عن الكلام حقًّا كان أو باطلًا، أما الصمت فهو إمساك عن قول الباطل دون الحق.
أكان سكوتك خوفا؟
إن كان الرد، بنعم أو لا. لم يفلت شخص من هذا السؤال أو على الأقل نوجهه لذاتنا، اما نعترف بخوفنا، فالخوف استاذ ماهر يعلم التغاضي عن اكبر الجرائم وابشع الافعال وحبس الكلام حتى لو جار الظالم، فالسكوت بحر طعمه أجاج يلقم المستضعفين ليطمر جراحهم، وقبل أن يفتح الضمير بوابة محكمته تخلق التبريرات والدوافع، وتلجم أفواه المنتقدين، فليس الجميع يود أن يكون خارج السرب ويحمل على عاتقه مهمة الاصلاح وشهر لسانه كسيف بتار لمقارعة الظالم ونصرة نفسه ومن تبرئوا وجل وفزع من هذه المنازلة.
أو نقول صمتنا لحكمة ما، فالحكمة متاع العارفين تهبهم الصبر ليوغلوا في صحراء الصمت غير مبالين لوعورتها وجفافها، ويسدلوا الستار عن قصف الأفواه الجارحة بهدوء.
إذاً السكوت للخائفون الوجلون، والصمت للعقلاء والمزاجيين.
اضافةتعليق
التعليقات