هزته الصدمة بعنف فأفاق من غفوته، وبدا له كل شيء وكأنه يراه لأول مرة في حياته، انها الحياة التي نعيشها وننعم بها ولكننا لا نشعر بحلاوتها إلا عندما نرى خطرا يهددها.
لم يعد يرى غير الطريق الممتد أمامه وقد بدى له بلا نهاية، ولم يعد يسمع سوى محرك سيارته وإطاراتها تنهب الأرض نهباً، لقد أحس ان الحياة بكل ما فيها من صخب وضجيج قد توقفت تماما من حوله، كان يبكي كالأطفال وقد حار ماذا يفعل بدموعه التي كانت تتساقط من عينيه، إن منديله في جيبه ولم يكن الأمر يتطلب منه إلا ان يمد إحدى يديه ليخرج المنديل ويمسح به دموعه، ولكنه نسى جيبه، ونسى المنديل، ونسى نفسه ولم يعد يذكر شيئا، لم يعد هناك أي شيء يملأ رأسه وفكره وقلبه غيرها!.
كل ما يعرفه الان ان زوجته وأم أطفاله الثلاثة تحتضر في مستشفى المدينة، وصل إلى المستشفى أخيرا واندفع مسرعا إلى مكتب كبير الأطباء وامسك بذراعيه يهزهما بعنف، (زوجتي دكتور ماذا حدث هل اصابتها خطيرة؟ هل تعيش أتوسل إليك أن تصارحني).
أجلسه الطبيب على الأريكة وراح يخفف عنه، (انها الان بين أيدي الأطباء في غرفة الجراحة، إن إصابة زوجتك خطيرة، لقد أصيبت بارتجاج في المخ وهي الان في غيبوبة، ونحن نفعل كل ما في وسعنا لإنقاذها، لقد كانت الصدمة عنيفة تجلد بالصبر وأدعو لها) .
وجلس الزوج وعرف طريق منديله في هذه المرة، فأخرجه من جيبه وراح يجفف به دموعه ويبتهل ويدعو لها بالشفاء.
لكنه لم يكن جالسا وحده هذه المرة، كانت صورة زوجته وأطفاله الثلاثة وحياته معهم، ماذا فعل بنفسه، كيف وصل إلى هنا، كيف أهمل حياته وأسرته لينصاع خلف رغباته الجامحة من متع الحياة الزائلة من سهر وعربدة مع رفاق السوء الذين أضلوه طريق الصواب، كيف ترك زوجته المتعبة الحامل بطفله الرابع أن تذهب لمعاينة الطبيبة وحدها وحينما قطعت الشارع بالعبور، تعرضت للحادث اللعين الذي افقده ابنه وربما حياتها.
كانت تتقافز إلى ذهنه أفكار بشعة بخصوص زوجته، وهو يرى في عيون ذويها الملامة والعتاب، أحس بغصة في صدره تعلو وتهبط، ويتساءل في نفسه: ما الحكمة بأن يعيش هو ويموت طفله الذي لم يبصر النور بعد ويصيب زوجته ما أصابها، أنا من يستحق ما حصل لهما، فقد كانت تغدق علي بحنانها ومراعاتها لي بينما أنا غارق في المعاصي لأخمص قدمي حتى تثاقلت ذنوبي على كاهلي.
بقي جالسا ينتظر، وكم هي قاسية ساعات الانتظار وأنت تنتظر المجهول، ثم عاد يردد في نفسه "ارحمها يا الله فهي بين يدي رحمتك، وأنت ارحم الراحمين" وعاد يدندن، يا الله.. يا الله..
الله.. كم أنا بعيد عنك.. كم أخذتني الدنيا بملذاتها حتى تماديت، فهرع يعدو في ذلك البهو الطويل ليصل إلى باب المشفى، وراح يفتش عن الله، أين يمكن أن يجده، انه يعلم بأنه معه، وفي كل مكان، يسمعه ويراه، لكنه يحتاج إلى خلوة في محراب ليجهش بالبكاء ندما وأسفا على أفعاله الرعناء، لعله يغفر له، وينقذ زوجته من رمق الموت، دخل المسجد الذي لم تخطه قدماه يوما، كم كان عبقه يريح القلب، بكى لساعات طوال حتى سكن قلبه المجمور من روعه، وسأل الله: هل ما زال هناك وقت ليغفر له ويضمه إلى كنف رحمته؟
رن هاتفه الجوال ليخبروه ان الخطر قد زال، نهض من مكانه وقدّ على صوته: مازال هناك وقت.. مازال هناك وقت لتغفر عني، ولأكفر عن سيآتي.. غفرانك يا الله إن رحمتك وسعت كل شيء.
إن مراجعة الشخص أفعاله مع شعوره بالأسف والندم على أخطاء ماضية ارتكبها بإرادته، يقربه إلى صاحب العزة، فالكثير منا يخطأ وتختلف أخطائنا وذنوبنا، لكن الله قد اقسم في كتابه الكريم في النفس اللوامة، قال جل وعلاه (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) وخير التوابين الخطاءين، الذين يتوبون بعد أخطاء قد يدركوها في وقت يختاره الله لهم، لوجود جانب مشرق في داخلهم ونقاء سريرتهم، لأجل أن يلتحقوا برحمة الله ونور الهداية.
ومهما كانت أخطائنا ضئيلة فـلنزكي أنفسنا ولنتعلم أن لا نكررها، فمن جهلنا نخطأ ومن خطأنا نتعلم.
اضافةتعليق
التعليقات