في تاريخ الإسلام، تقف فاطمة الزهراء عليها السلام بوصفها شخصية فذة جمعت بين النسب والمكانة والعلم والنبوة. فهي ابنة رسول الله وحبيبته، وشاهدته في تفاصيل حياته من طفولتها حتى آخر لحظاته، وبرغم هذه الملازمة التي لم يحظَ بها أحد، إلا أن المروي عنها يكاد لا يجاوز بضع روايات، في مفارقة تُثير السؤال قبل الدهشة: كيف تُغيَّب مرويات امرأة كانت الأقرب إلى صاحب الرسالة، والأعلم ببيته، والأوعى بأقواله؟
المقارنة وحدها تكشف حجم المفارقة. فقد عاش إلى جوار النبي كثيرون رواياتهم بالمئات والآلاف، كأبي هريرة الذي لم يرافق النبي إلا سنوات قليلة، ومع ذلك نُقل عنه أكثر من ألفي حديث. مقابل هذا، يذكر السيوطي أن ما وصل من روايات فاطمة عليها السلام لا يبلغ عشرة أحاديث، ويعدّ البدخشاني ثمانية عشر فقط. هذا التفاوت لم يكن نتيجة نقص في العلم أو قلة في الحضور، بل انعكاسًا لظروف سياسية واجتماعية وعلمية أدت إلى تغييب دورها الروائي مع أنها كانت في قلب البيت النبوي.
وقد أثبتت نصوص معتبرة من الفريقين أن الزهراء لم تكن مجرد ابنة نبي، بل كانت ذات شخصية علمية فهي عالمة غير معلمة فقد يؤكد عدد من العلماء القدامى والمعاصرين أنها كانت تحمل من علوم الشرائع ما لم يُتح لغيرها، وأن النبي صلى الله عليه وآله كان يحدثها بأحاديث كثيرة ويستكتب لها صحفًا من الوحي. ويروي المؤرخون أن للزهراء مجموعة من الأوراق كانت تحفظها وتعتني بها، وتتضمن أخبارًا ومعارف تلقتها من أبيها مباشرة، هذه الشهادات تكشف عن صورة مغايرة تمامًا للصورة الشائعة؛ صورة المرأة العالمة التي لم يُفسح المجال لتراثها أن يتصدر.
ومن أبرز الشواهد على عمق علوم فاطمة (عليها السلام) هو ما عُرف في التراث الشيعي بـ مصحف فاطمة، والذي شاع حوله كثير من الغموض والمغالطات، والتمهيد لذكر هذا المصحف ضرورة، لأنه يكشف جانبًا من علاقتها بالوحي وعمق معرفتها، وفي الوقت نفسه يوضح ما ليس فيه، فالمصحف ليس قرآنًا آخر، ولا كتابًا تشريعيًا موازٍ للكتاب الكريم، بل هو كتاب علمي يتضمن ما كان يُملى على فاطمة من أخبار الغيب وما سيكون، كما ورد في الروايات المعتبرة، وقد كان الإمام علي (عليه السلام) يدوّن ما يُملى عليها، ليكون المصحف لاحقًا إرثًا موكولًا إلى الأئمة من نسلها، يورثونه واحدًا بعد آخر، شاهدًا على أن علمها كان امتدادًا لبيت النبوة.
إن غياب مرويات الزهراء عن المصادر الحديثية السنية والشيعية على حدّ سواء لا يعني غياب علمها، بل غياب التدوين عنه، وقد حاول العلماء في القرون الأخيرة سدّ هذا النقص بجمع ما تفرق من مروياتها، فصدرت عدة كتب تحت عنوان مسند فاطمة الزهراء، لكنها تبقى محاولات خجولة أمام مقام امرأة كانت قلب الرسالة وروحها، وأول شاهد على تفاصيلها.
من الضروري إعادة النظر في تراث الزهراء (عليها السلام) بوصفها عالِمة لا مجرد رمز عاطفي؛ امرأة حملت العلم كما حملت الطهر، وكانت حجّة على الزمن بما ورثته من أبيها، مما لم يُكتب له أن يصلنا بقدر ما يستحق، ومهمة الباحث اليوم ليست فقط جمع ما بقي، بل ردّ الاعتبار لصوتٍ حاول التاريخ أن يخفضه، لكنه بقي أعلى من محاولات التغييب: صوت فاطمة العالِمة، ابنة النبوة، التي لا يزال تراثها ينتظر أن يُكشف كما يليق بها.








اضافةتعليق
التعليقات