ينشغلُ الإنسان في عادته بيومٍ يتماشى مع متطلبات عصره من جهدٍ فكري وجسدي ناهيكَ عن التشظّي بين ما يُريد وما يُطلَب في خُضم عجلة الإنتاج والاستهلاك التي لا تتوقف بل "تَرمي بِشَرَرٍ كالقّصر" حتى يُغيّب المرءُ شيئاً فشيئاً عن واقعهِ الداخلي والذي يتناولهُ الطرف الآخر من الطاولة بمكرٍ وسكون.
يمتلكُ الفردُ منّا تكويناً ذا ممراتٍ قد يجهلُ بعضها لكنها لا تغيب عمّن يرومُ خلقَ الهيمنة الناعمة من خلال تشريح خرائط الإنسان من ذاكرة وفكر وروح ومادة وعاطفة تمتلكُ سمعةَ الضعف لكنها تشكّل الضربةُ الأقوى في نسيج المجتمع.
فلطالما قامت فكرة الصراعِ من أجل البقاء في بدايتها على وضعية الدفاع لكنها تطورت مع الزمن لتتحول إلى هجومٍ شرسٍ ومستمر يخلقُ نموذج الإنسان الطامع في أكثر من فكرة البقاء والذي يتمايزُ في نسختهِ الشرقية والغربية على نحوي العشوائية والتكتيك.
فلقد حرص الطامعُ الغربي على دخول حرب التوسع بأقل الخسائر فأصبح مرتكزاً على الخطط طويلة الأمد والتي تستولي على الأرض وعقولها بدءاً من بوابة العاطفة.
فينقل التاريخُ في صفحاتهِ بأن ثقافة الشاي عند الشعب الياباني كانت ثقافة متجذرة في هوياتهم، حتى أنهم كانوا يخصصون غرفةً خاصة لاحتساء شرابهم القومي كعائلة تحملُ هذا الموروث منذُ القدم وحينَ استحدثت إحدى الشركات الغربية فكرة القهوة كان لابد لهم من ابتكار طريقةٍ يدسّون بها هذا المشروب ليصبح بنفس الأصالة في هذه الملّة، فصنعوا حلوى صغيرة بنكهة القهوة و قاموا بترويجها إلى الأطفال لتُصبح مستساغة عندهم إذ خلقوا لديهم ذاكرة عاطفية ترتبط بشكل وثيق مع هذه النكهة، والتي أنتجت بدورها بعد عشرين عاماً جيلاً لا يبدأ صباحه إلا بكوبٍ من الاسبريسو ذو المرارة الحادة.
فلا يمكن التماس نتائج التطبيع بعقلية الغازي مع الجيل الناضج كما تفعلُ مع العقول الصغيرة، وهذا ما فعله المستعمر مع جيل "سبيستون" وهي الطريقة التي يستحيلُ أن يستهجنها الآباء لأبناهم إذ إن برمجة الذاكرة العاطفية كانت مليئة بالقيم في ظاهرها لكنها أشبهُ بصنارةٍ من شبك تتُركُ مفتوحةً لأعوام لتظن الأسماكُ بأنها بيتاً واسعاً، وفي لحظة الهدف... يصطاد الصيادُ الماكر حريتهم وعزوفهم عن المُقاومة ظناً بأنها أمانهم.
فبعد أكثرَ من ثلاثين عاماً على قناة شباب المستقبل (كما زعموا)، خرج أكثر من 5000 شاب من شباب المستقبل في قلب العاصمة بغداد مُكبّلين بذاكرة الطفولة الممنهجة، يتجمعون في حفلٍ مهيب يُعيد ترويج أغاني العقود الأولى في هذه الحقبة الزمنية بالتحديد، كأن هويتهم يُعادُ تحديثها من جديد حتى لا تتسرب إليها قيمُ الثبات والمقاومة والجَلد التي أحيتها قضيةُ فلسطين مرة أخرى، وحتى لا تستأنف الفتوّة عملها الذي بقي مع وقف التنفيذ لمدة طويلة، إذ يتأكدون بأنهم قانطون في الهاوية بعد أن عانقوا عاطفتهم حد الانغماس.
إن تحليل الذاكرة العاطفية يُعتبر من أعقد التحليلات في الطبيعة البشرية إذ يُمكن أن نهدمَ أو نبني أعلى صروح الرصانة النفسية لدى الإنسان بمجرد ربط عاطفتهِ بذكرى حزينة أو سعيدة تُبثُ لمرامي مدروسة.
فانصياعُ البلدان العربية للتطبيع بسهولة كان هدفاً بعيد المنال ما لم يُربى الجيل الصغير على ترفِ العيش مع فكرة أن الحماية الغربية واليهودية لهم هي من جعلت السيادة الأمنية حلاً راهناً، في حينَ أن جيل المستقبل في الغرب يخرجُ اليوم بمسيراتٍ واحتجاجاتٍ لا تهتزُ بأي عاطفةَ سوى دماء طفلٍ بريء في أرضٍ مُدمّرة.
قد لا يكون جيلنا قد ساهمَ في اختيار طفولتهِ وذاكرتها الممزوجة بأهداف السلطات الخفيّة، لكن حريٌّ بهِ أن يكسرَ القالب الصلب بفكرٍ مُقاوم وبصيرة نافذة... ويرى خلاف أهواء قنواتِ شباب المستقبل.
اضافةتعليق
التعليقات