يمكن تعريف التكنولوجيا على أنّها حصيلة المعرفة العلمية للأفراد التي يتمّ توظيفها بأسلوب مناسب بحيث تخدم العديد من الأغراض العملية في حياة الناس، فمن خلال التطبيقات التكنولوجيا المتخصصة أصبح بالإمكان التعامل بشكل أفضل مع مختلف المشكلات التي تواجه الإنسان في الحياة اليومية، وتعدُّ مسألة التكنولوجيا مسألة نسبية، حيث تُستحدث سنويًا مجموعة من الوسائل التكنولوجية الجديدة التي تجعل التقنيات التي استخدمت فيما قبل قديمة نسبيًا، وتؤثر التكنولوجيا بشكل مباشر على تفاصيل كثيرة في حياة الأفراد بما في ذلك تفكيرهم وعقولهم، حيث جميعنا نتذكّر بكلّ تأكيد كم كان من الصعب علينا أنْ نتذكّر معلومةً ما تتعلق بدولة، أو في أيّ عامٍ كان ذلك الحدث التاريخيّ، قبل عقدٍ من الزمان. لكن ولحسن الحظّ ربما، فإنّك اليوم خلال لحظةٍ واحدة، تستطيع البحث في الإنترنت، وتحصل على الإجابة الصحيحة بمنتهى السهولة.
أو مثلا تذكّر متى كانت آخر مرة حفظت فيها رقم هاتف أحد أفراد أسرتك أو أصدقائك، ربما ستردّ بشكلٍ مباشر أنْ لا حاجةَ لذلك، فهاتفك يعمل بمثابة ذاكرةٍ خارجيةٍ لك، يمكنك اللجوء إليه وقتما تشاء فينقذك. أليس كذلك؟
وعلى الرغم من أنّ سهولة الحصول على المعلومات في العالم الحديث قد حسّنت من حياتنا بطرق عديدة، إلا أنها تعمل أيضًا على تغيير كيفية عمل الدماغ ومعالجته. ما يجعل من الباحثين بطرح الأسئلة فيما إذا كانت تلك التغييرات تسير نحو الأفضل أو الأسوأ وإلى أيّ مدىً يمكن أنْ تصل في نهاية المطاف.
رغم كل الفوائد التي تصب في صالح سرعة الوصول إلى المعلومة، لكن أضرارا صحية ناجمة عن الاستخدام المفرط للإنترنت قد تدمر بنية دماغنا، ويحذر خبراء من كثرة المعلومات التي توفرها التكنولوجيا الحديثة على صحتنا.
فإذا كنت تقضي وقتا طويلا في استخدام الإنترنت، فإن ذلك يترك تأثيرا سلبيا في دماغك، إذ خلصت دراسة حديثة إلى أن الاستخدام الكثير للإنترنت يغير من طريقة عمل دماغنا، بحيث تصبح الذاكرة ضعيفة ويقل التركيز.
فمما لا شكّ فيه أنّ التكنولوجيا تعمل على تغيير الطريقة التي نعيش بها حياتنا اليومية، والطريقة التي نتعلم بها، والطريقة التي يسير فيها إدراكنا وانتباهنا وتركيزنا، فقد أوحت مجموعة كبيرة من الأبحاث أنه قد يكون لها تأثيرات عميقة على ذاكرتنا، سواء على المدى القصير أو البعيد، بطريقةٍ تضعف وظيفتها وتؤثر عليها سلبًا.
فقد توصلت إحدى الدراسات أنّ اعتمادنا على هواتفنا وشبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ لاسترجاع معلوماتنا وحفظ ذكرياتنا المختلفة، تمامًا كما اعتمادنا على خرائط جوجل وتقنيات تحديد الموقع مثل GPS، يقلل من احتمالية تذكّر تلك المعلومات ويسهّل ولوجها لدائرة النسيان في الدماغ، فيما بات يُعرف بمصطلح "تأثير جوجل".
كان الأشخاص في السابق قادرين على حفظ كميات كبيرة حقا من المعارف مثل حفظ كتاب كامل على ظهر قلب ولكن التكنولوجيا انهت الحاجة والدافع إلى القيام بذلك. فأنت حين تعرف أن غوغل أو هاتفك الذكي قادر على حفظ معلومة ما بالنيابة عنك يكون من المستبعد أن تحفظها في ذاكرتك ، كما أظهرت دراسات. ويقول باحثون أن الانترنت أشبه بالذاكرة الصلبة بالنسبة لدماغ الانسان بعد أن اصبحنا نحيل كمية متزايدة من المعلومات اليها.
ونظرًا لأنّ ذاكرة الإنسان تنشط من خلال تنشيط الخلايا العصبية التي تحمل المعلومات التي نودّ تذكّرها، ما يعني زيادة نشاط تلك الخلايا واتصالها بغيرها كلما تمّ تحفيزها، أي أنّ محاولة تذكّر معلومة قديمة يسهّل الحصول على المعلومة نفسها في المستقبل. لكن ومع توفر المزيد من المعلومات عبر الهواتف الذكية والأجهزة الأخرى، أصبحنا أكثر اعتمادًا على الرجوع إليها بشكل تدريجيّ في حياتنا اليومية، ما يؤدي إلى انخفاض نشاط الدماغ وخلاياه العصبية شيئًا فشيئًا مع الوقت، وهذا يفسّر تمامًا سرعة نسيانا لمعلومةٍ كنّا قد حصلنا عليها من الإنترنت سابقًا.
حيث أظهرت دراسة أن احتمالات أن ينسى الشباب الذين نشأوا في عصر الانترنت أي يوم من الأسبوع نحن فيه أو أين تركوا مفاتيحهم أكبر منها بين الأشخاص في سن الخامسة وخمسين أو أكبر. وقالت الطبيبة المختصة بالأمراض المهنية باتريشيا غوتينتاغ أن التكنولوجيا الحديثة هي أحد الأسباب الرئيسية لهذا النسيان بين الشباب. وأوضحت غوتنينتاغ أن هذا الجيل تعلَّم أداء عدة وظائف في وقت واحد معتمدا على التكنولوجيا واقتران ذلك في أحيان كثيرة بقلة النوم ومن شأن هذا كله أن يسفر عن ارتفاع مستوى النسيان.
وبكلماتٍ أخرى، يعمل الدماغ على تقوية قدرات ذاكرته في كل مرة نسترجع فيها معلومةٍ ما، تمامًا كما يقوم بنسيان المعلومات غير المرغوب فيها أو غير الهامّة التي قد تشتتنا. ونظرًا لأنّ المعلومات التي تنتج عن البحث السريع في الإنترنت تُنسى بسرعة، فمن الواضح أنّ لهذا تأثيرٌ طويل المدى على حالة الذاكرة لدينا.
وفي دراسة أخرى أُجريت لمعرفة أثر التقاط الصور في المتحف على الذاكرة والإدراك، اكتشف الباحثون أنّ الأشخاص الذين التقطوا صورًا لما رأوه في المتحف سجّلوا احتمالاتٍ أقل لتذكّر تفاصيل ما شاهدوه، على عكس أولئك الذين لم يلتقطوا الصور ولم يستخدموا هواتفهم، إذ كانوا أفضل بكثير في تذكر التفاصيل التي رأوها ولم يتم تصويرها.
وهناك أيضا سبب آخر يمكن عزو ذلك الأثر إليه، فإنّ احتواء الإنترنت على هذا الكمّ الهائل من المعلومات التي يمكن الوصول إليها بسرعة، يجعلنا نميل أكثر إلى عدم بذل جهدٍ عظيم في حفظها وتذكّرها، لشعورنا بتواجدها دائمًا وإلى عدم الحاجة إلى تذكرها طالما يمكن العثور عليها في أية لحظة، الأمر الذي يقلّل من كمية المعلومات التي يمكن للدماغ الاحتفاظ بها مع الوقت. إضافةً إلى خلق حالة من التشتّت والفوضى في الذكريات والمعلومات، مما يجعل من الصعب تذكّرها وترتيبها لاحقًا.
كما تعمل التكنولوجيا على تقويض التذكّر بوصفه عملية اجتماعية، نظرًا لكوننا نتذكر معلومات معينة ونشاركها مع الآخرين، وبالتالي نعتمد عليهم لملئنا بالمعلومات والتفاصيل التي نسيناها. فإلى حدٍ ما، باتت شبكات الإنترنت وهواتفنا الذكية هي التي تعمل على تذكّر تلك التفاصيل المتعلّقة بالآخرين، وبتنا ننظر إليها بكونها جزءًا خارجيًا بعيدًا عنّا لم نشاركْ في تكوينه أو خلقه، وكأنّ هاتفك أصبح قرصًا صلبًا خارجيًا لدماغك.
ولكن النسيان أو عدم القدرة على التذكر ليس هو المشكلة الكبرى ببساطة، فهناك مشاكل أكبر تتعلّق بالأمر تتمحور حول قدرتنا على التركيز والانتباه واتخاذ القرارات وحل المشكلات، أيْ أنّ جميع القدرات الإدراكية للدماغ معرّضة لآثار التكنولوجيا السلبية المرتبطة بالذاكرة، نظرًا لحدوث اختلالٍ في أدمغتنا وخلاياه العصبية التي تعمل بشكل سلسلة مترابطة ومتراصّة هي المسؤولة عن تكويناتنا وقدراتنا وشخصياتنا.
فقبل أن تضمر ذاكرتنا كيف نحافظ عليها بما أننا لن نستطيع التخلي عما تقدّمه لنا التكنولوجيا، لكن هناك بعض الوسائل والعادات التي يمكننا من خلالها الحفاظ على ذاكرة نشطة لا تتعلق كلها بالتكنولوجيا، حيث يربط العلماء بين الذاكرة الجيدة وعوامل أخرى متعددة مثل السن والنشاط الذهني وجودة النوم والنظام الغذائي، فمواكبة التكنولوجيا أمر حيوي يصعب الاستغناء عنه ليبقى دماغنا نشطا، ولكن علماء الأعصاب ينصحون بالتخلي عنها أحيانا والقيام ببعض التمارين البسيطة لاختبار ذاكرتنا وتنشيطها؛ حين تقف في إشارة المرور حاول أن تتذكر الاتجاهات والشوارع مثلا. كما ينصح العلماء بأن نُبقي عقولنا في حالة تعلم متواصل؛ لغة أو مهارة جديدة، وبناء علاقات اجتماعية جديدة، القراءة والسفر، بحيث تزداد الروابط بين الخلايا العصبية بشكل مستمر وهو ما يحفظ الذاكرة.
وبهذا فإن بطبيعة الحال، الجدلية في إيجابيات وسلبيات التكنولوجيا ستبقى قائمة طويلًا لذا يؤكد الخبراء أن لدى مستخدمي الانترنت القدرة على وقف استنزاف قدرات المخ وهدر الوقت بالابتعاد عنها بين حين وآخر وتوظيف ملكاتهم الفكرية وحمايتها من الضمور الذي يسببه الاعتماد في كل شيء على الانترنت.
اضافةتعليق
التعليقات