لم يكن صباح ذلك اليوم يختلف كثيراً عن باقي الأيام، فقد تناولنا طعام الإفطار سويَّة، وتجاذبنا خلاله أطراف الحديث، النصيب الأوفر من ذلك الحديث هم اولادي الثمانية، حديثه مختلف اليوم، يردد اسماءهم ويتفقدّهم، يقبّل الكبير ويحتضن الصغير، الشيء الوحيد الذي تغيَّر في ذلك اليوم، هو أنه كان سعيداً، ومنشرح الصدر، ساعات قليلة مضت، هاتفه المحمول يرنّ، لا أدري، شعور غريب أحسست به حتى قبل أن أرى الرقم الذي يتصل به، انقبض صدري وضاق، نظرت إلى المحمول لاستكشف من هو المتصل، لكنني تذكرت انني أميّة لا أجيد القراءة والكتابة.
خير إن شاء الله، استشر زوجي الطرف الآخر وكان صوت رجل وهناك ضجّة كبير في الخلفية، خرج من البيت مُسرعاً، لا يشعر بالزمن ولا يعلم بما يدور حوله وسار باتجاه ذلك المقر العسكري الذي يبعد عشرات الكيلومترات، كان قلبي يُسابقني للوصول إلى هناك، آلاف الأفكار والوساوس خطرت ببالي، أظنَّ أسوأ الظنون وأحتمل أسوأ الاحتمالات، ثم لا ألبث أن أُهدئ من حال نفسي وأُسلِّيها بأن الأمر يسير وأن زوجي سيعود لي بحكم عمره الكبير، ليضيء بنوره دارنا العتيق.
كانت الكآبة تُحيط بي من كل جانب، توجَّهت صوب البوابة، حثيت الخُطى، تكاد لا تحملني قدماي، لا أدري إلى أين أتوجَّه بالضبط، متثاقلة القدم، تغيَّرت ملامح وجهي وكساه الحزن والحسرة، صبرا جميلا يا الله، أنفاسي تزاحم نبضات قلبي الخائفة، استيقظ اولادي، واول ما افتتحوا الصباح بسؤالهم عن ابيهم، اخفيت عبرتي، وقلت لهم سيعود قريبا، بَوْح جراحي مُوْلِم حقا، و كلُّ الحكاية بألوانها تفيضُ بعمقِ الألم وأُقصُوصَتِي وجعٌ ودَمار، وتخفي شُجُوناً بعُمقِ القَرار يبُوحُ صدَاهَا بصمتِ العدَم، يفيضُ أسىً لا يقولُ كلام، وبعضُ سكاكِينِها للجِراح كملحٍ عليها يزيدُ السّقم وبعضٌ كأنشودةٍ منْ سلام تُلملِم قلباً يضُخُّ النّدم كجُنحٍ لطيرٍ يُؤوِي الصّغار يهدئهم بالحَنايا نغَم.
اربعة ايام انقضت وليس هنالك أي خبر؟ افتقده كثيرا، اخبئ نفسي من عيون اطفالي، التقط دموعي المتساقطة، اقرأ ما حفظته من والدتي من سور قصار، لتحفظ زوجي وكل رجال الحشد، يا راد يوسف على يعقوب رد لي زوجي سالما غانما، وبوحُ الفقير لغَيرِ الله مذلة، عند غروب الشمس طُرقت باب دارنا، انتظر اطفالي وراء الباب لعل الطارق أبيهم، قلبي يوجس خيفة، فماذا ان لم يكن هو؟
يمسكون يدي لفتح لهم الباب، قلت لهم: لعلكم مخطئون ليست بابنا التي تطرق، فجاب طفلي الصغير، لا يا امي انها ريح أبي، مترددة اقف، قفز ولدي وفتح الباب، من !! رجع خائبا دمعته تلمع في وجهه، ليس أبي، ثمة نار اشتعلت في صدري، وقفت وراء الباب، نعم يا اخي تفضل، قدّم لي علبة وقال لي: تصبّري يا أختاه، وعظّم الله اجرك، استشهد الشيخ عماد في منطقة السنجارية، وهذه العلبة اوصى ان اسلمها لكم بعد استشهاده وطلب مني ان اسلّم عليكم، فلكم العزاء ولنا الولاء.
سمع اطفالي ما قاله الرجل، فكانت صرخاتهم تعلو وحالتهم يُرثى لها، فيهم من يبكي، وفيهم من يتأوَّه ويئن والألم بادٍ عليهم بوضوح، ومنهم من احتضن صورته، سلّم لي بقايا جعبته، فكانت تحتضن نص من فتوى المرجعية العليا و ورد وعود و بخور، ومسبحة من تراب الامام الحسين (عليه السلام) وخاتمه العقيق الذي نقش فيه: علي ولي الله.
اضافةتعليق
التعليقات